ذكريات محبوسة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:37 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذكريات محبوسة

نشر فى : الثلاثاء 25 يوليه 2017 - 8:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 25 يوليه 2017 - 8:35 م

جلسا على طرف مقهى فى شارع صغير من شوارع مدينة جنيف. طلبا قهوتهما وهما يغالبان التعب، فالليلة التى مرت كانت على قصرها طويلة والحديث بينهما لم يكتمل. الدقائق تمر وعيونهما لا تريد الافتراق. عيون جربت الافتراق طويلا، جربته سنوات بل عقودا وعادت عنه من أجل يوم وليلة وها هى تستعد لافتراق آخر. باقٍ من الزمن ساعة.
***
قالت تعالَ.. تعالَ نحلم. رد عليها بسرعة: وهل توقفنا، ألم نكن نحلم طيلة نهار الأمس والمساء والليل؟ اتفقنا ونفذنا اتفاقنا، اتفقنا على أن نعيش يوما بليلة خارج واقعنا، أى نصنع حلما ونعيشه. قالت: أقصد أن نحلم بمستحيل. قال: هل نحن الآن، وهل كنا خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، نحيا فى الممكن؟ قضينا سنوات نحلم بمستحيل وها نحن نعيشه لساعات. قالت: أقصد نحلم بمستحيل آخر. نعم حققنا حلما وعشنا المستحيل، تعالً نحلم بمستحيل ثان. تعلم عنى عشقى للتحدى حتى فى أحلامى. مثلا، أحلم الآن بيوم تنتصر فيه التكنولوجيا انتصارا جديدا فتسمح لنا، أنت وأنا، بأن نشاهد تسجيلا حيا لأول لقاء لنا، نظهر فيه وتظهر معنا كل الزهور التى جلسنا فى وسطها. يظهر فيه البط فى البحيرة يجوب المياه راضيا وسعيدا. أحلم بأن ينقل التسجيل أصوات شقاوة المراهقات وهن يتظاهرن باللعب وفى الحقيقة يسترقن السمع ليتنصتن على أعذب الكلمات. أحلم بأن نسمع فيه مختلف الألحان التى دندنت بها الطيور وهى رائحة وغادية فوق رأسينا. وكل ما تبادلناه أنا وأنت من معانً صغناها فى كلمات أذكرها حرفيا وأعرف جيدا ما تركته فينا. أحلم بالتكنولوجيا التى تجعلنى أسمع نفسى وأسمعك ونحن نتنافس فى وصف مشاعرنا وأحاسيسنا فى زمن كان الخجل فيه ملازما لا يغادر، يرفض حتى أن يدير وجهه تفهما أو نضجا.
***
لا مستحيل فى العصر الذى سوف يعيش فيه أولادنا وأحفادنا. فى عام 1888 أخرجت معامل كوداك أول كاميرا فتحقق حلمٌ كان مستحيلا. منذ ذلك الحين ونحن نلتقط لأنفسنا ولأشياء صورا فوتوغرافية فى لحظات نريد أن نتذكرها. حبسنا اللحظة فى صورة. لحظة حفلت بالكثير جدا من الأصوات والمعانى والمشاعر والرغبات، حبسناها جميعها فى صورة فوتوغرافية ساكتة جدا وكتومة جدا. كثيرا ما عدنا إليها ومع الزمن تأكدنا أنها تخفى أكثر مما تظهر. نتذكر شخصا كان هناك فلا نجده فى الصورة لأنه، كما قيل لنا، كان خارج الإطار. هل كانت الموسيقى أيضا خارج الإطار؟ والكلمات التى همست بها فى أذنك؟ رضينا بها لأنها فى بداياتها قالت أشياء واحتفظت لنا بأشياء. كنا نرى فيها ما لا يراه الغرباء. تذكر صورة الحفل الذى كان مسرحا لأول لقاء بيننا. هناك فى آخر الصالة، وخارج إطار الصورة، كان يقف أبى وأمى يستقبلان الضيوف، وهنا على يمين ضيوف الصورة أطفال يتشاجرون وعلى يسارهم فتيات يرقصن على لحن لفريد الأطرش. لا أحد من هؤلاء ظهر فى الصورة ولكننا كنا نعرفهم بالاسم ونحكى عنهم حكايات، حتى لحن فريد الأطرش كنا نذكر اللحن الذى جاء بعده والفتاة التى اختارته لترقص عليه. أقول حبسنا ذكرياتنا عن تلك الليلة فى صورة ظنا منا أنها سوف تفى بالعهد ما بقيت سليمة. رأينا فيها ما التقطت، ونحن من الذاكرة نقرأ فيها ما لم تلتقط. اجتمع عليها وعلينا الزمن، بهتت الذاكرة وبهتت الصورة.
***
أعرف الذى تحلمين به. تطلبين صورة تنقلنا من الحاضر إلى لحظة طويلة عشناها فى الماضى. لحظة يختلط فيها الشكل بالصوت بالرائحة بالرغبة وبالعواطف إن أمكن.. لحظة تحكى ما سبقها ولا تسكت عند نهايتها. قالت أحسنت. هذا بالفعل ما أحلم به. أريد أن أكون وتكون معى فى اللحظة التى بدأت عندها قصتنا. أريد أن أعيش مرة أخرى لحظة ثنائك على ذكائى ثم على قوامى. أحلم بلحظة أسمع منك فيها مرة أخرى كلمات اشترك فى صياغتها عزم رجل يقرر وعذوبة رجل منبهر ومرتبك. أنا رأيتك وأنت لم ترَ نفسك. أتظن أن يوما سيأتى نتمكن فيه من أن نختار لحظة معينة من الماضى لنعيشها كاملة مرة ثانية. إنه حلمى الأعظم وسترى أننا سنكون معا يوم يتحقق وسنختار معا اللحظة التى نحلم بأن نعيشها مرة ثانية. لحظة أرانى فيها وأنا أحبك وترى نفسك وأنت تحبنى وكلانا معا نرى الدنيا وهى تحبنا ونحبها.
****
هل تعلم معنى أن يتحقق هذا الحلم ؟. معناه أننى أستطيع أن أعيش لحظات من الماضى مرة بل مرات إن شئت. أستطيع أن أختار لحظة وصولى إلى هذه الدنيا، فأسمع أول صرخة فى حياة متعددة الصرخات. من هناك، من حيث خرجت، حملونى إلى صدر أمى، فكان الحضن الأول فى حياتى، حضن لم أعرف مثله حضنا آخر. اعذرنى، اعذر صراحتى. معناه أيضا أن أستعيد صوتها وهى تدللنى وتنهرنى وتعلمنى وتغنى لى فأنام. أحلم ــ لو سمحت التكنولوجيا ــ بأن أختار لحظتين فارقتين، لحظة كرهت فيها رجلا إلى حد تمنيت أن أعذبه كما عذبنى فأعيش لحظة الكره مرتين، ولحظة أحببت فيها رجلا إلى حد تمنيت أن أعيش كل أيامه معى مرتين وثلاثا وأربعا.
***
اذهب ترعاك الملائكة. وعدتك وأوفيت بوعدى. وهذا وعد جديد. أعدك أن تجدنى بجانبك فى الدقيقة التى يعلنون فيها أن التكنولوجيا حققت لنا الحلم. أرانا والسعادة تغمرنا والشوق يدفعنا لنختار من ماضينا لحظة نعيشها مرة ثانية ومرات إن شئنا.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي