السياسة العلمية للدول النامية - محمد زهران - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 8:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة العلمية للدول النامية

نشر فى : الجمعة 25 أغسطس 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : الجمعة 25 أغسطس 2023 - 8:00 م
فى مقال الأسبوع الماضى تكلمنا عن السياسة العلمية للدول: ما هيتها وأهميتها. الدولة التى لا تنتهج نهجا واضحا فى سياستها العلمية تصبح فى مهب الريح بين الدول المنتجة للتكنولوجيا وتحت رحمتهم حتى ولو كانت دولة غنية بالموارد والأموال. مقال اليوم يناقش الموضوع من منظور أكثر تخصصا وهو السياسة العلمية للدول النامية، وهى تختلف عن السياسة العلمية للدول الغنية؛ لأن الدول النامية لن تحتمل سياسة علمية خاطئة بعكس الدول الغنية التى تمتلك مخزونا من الثروة يساعدها على امتصاص الخسائر التى قد تنتج عن سياسة علمية غير مناسبة. هذا معناه أنه لا توجد سياسة علمية ناجحة فى المطلق، لا نستطيع أن نأخذ سياسة علمية لدولة ما ونطبقها «عميانى» فى دولة أخرى، بل يجب تعديلها بحيث تناسب الدولة الثانية. اليوم سنتحدث عن مجموعة من الدول تمثل السواد الأعظم من دول العالم ويطلق عليها الدول النامية.
...
ما هى الدول النامية؟ بدون الدخول فى تعريفات تاريخية متعلقة بدول العالم الأول والثانى والثالث وبدون الدخول فى تقسيمات البنك الدولى لدول العالم دعنا نلتزم هنا بتعريف بسيط للدول النامية مناسب لموضوع مقالنا اليوم. الدولة النامية هى دولة ذات دخل قومى منخفض بالنسبة لدول أخرى مما ينعكس على حياة شعبها. لن نقول إن الدولة تعتبر نامية إذا لم تمتلك موارد طبيعية لأن دولة مثل اليابان مواردها الطبيعية قليلة جدا لكن اقتصادها قوى، وهناك دول ذات موارد كبيرة لكن عدم كفاءة حكوماتها أو الفساد أو الحروب أدت إلى عدم استغلالها لتلك الموارد وبالتالى يظل اقتصادها ضعيفا.
كيف تبنى دولة نامية سياستها العلمية فى ظل اقتصاد متوسط أو ضعيف؟
...
قبل أن نتكلم عن بناء السياسة العلمية للدول النامية يجب أولا أن نجيب عن سؤال مهم: ما الذى تتطلع إليه الدول النامية؟ إجابة هذا السؤال تساعد على بناء سياسة علمية تحقق آمال الدولة وفى نفس الوقت تساعد على قياس مدى نجاح تلك السياسة وتعديل المسار إذا لزم الأمر. كما قلنا فإن لكل دولة ظروفها لكن فى العام الدول النامية تتطلع للآتى:
• زيادة الدخل القومى.
• ترشيد الإنفاق وبالتالى الخسارة نتيجة سياسة علمية خاطئة هو أمر مرفوض.
• محاولة عدم توسيع الفجوة التكنولوجية بينها وبين الدول المتقدمة ما أمكن.
لتحقيق تلك الأهداف يجب على الدول النامية بناء سياستها العلمية مع الآخذ فى الاعتبار النقاط الآتية:
• التركيز على الأبحاث التطبيقية أكثر من النظرية.
• اختيار المشروعات العلمية ذات النتائج السريعة.
• التركيز على المشروعات التى تخدم قطاعات محددة ترى كل دولة أنها المهمة فى الوقت الحالى، ونقصد بالقطاعات الأنشطة التى تؤثر فى حياة الناس وفى الاقتصاد مثل التعليم والصحة والطاقة والمياه والزراعة إلخ.
• المتابعة الدقيقة لتلك المشروعات وتعديل المسار إذا لزم الأمر.
تلك النقاط الأربع تقلل احتمالات الفشل الذى ينتج عنه خسارة مادية وفى نفس الوقت تضمن نتائج سريعة تشعر بها شعوب تلك الدول النامية. اختيار المشروعات العلمية التطبيقية ذات النتائج السريعة هى لب السياسة العلمية للدول النامية وهى البوصلة التى يجب أن تستخدمها تلك الدول لتوجيه مواردها وثرواتها المحدودة نحو تلك الأبحاث العلمية التى تقود إلى مشروعات تكنولوجية ذات عائد ملموس على المدى القصير.
...
الأبحاث العلمية فى الدول تُجرى فى الجامعات وفى المعامل البحثية التابعة للحكومات أو الشركات، تمويل تلك المشروعات يأتى عادة من الحكومات كجزء من الميزانية العامة للدولة أو من الشركات. الشركات عادة تبحث عن الربح وتتنافس فيما بينها. فى الدول النامية هذا التنافس بين الشركات ليس هو الأفضل. تكامل الشركات فى أبحاثها ومنتجاتها هو الأكثر فائدة إذا أردنا الوصول لنتائج سريعة. نرى ذلك مثلا فى الشركات الكبرى الصينية مثل (Baidu) و(AliBaba) و(Tencent)، هذه الشركات الثلاث لها أنشطة مختلفة لكن كلها تقوم بأبحاث متعلقة بالذكاء الاصطناعى وتلك الأبحاث تتكامل ولا تتنافس بأمر من السلطات الصينية عكس التنافس الشديد بين شركات مثل (Amazon) و(Microsoft) و(Meta) و(Google) و(IBM) و(Apple) الأمريكية فى ظل الاقتصاد الحر، هذا العامل فى صالح الصين وتقدمها فى مضمار الذكاء الاصطناعى كما شرحت إمى ويب فى كتابها «التسعة الكبار» أو (The Big Nine) وهى الشركات التسع التى ذكرناها والتى من شأنها أن تصنع المستقبل المتعلق بأبحاث الذكاء الاصطناعى كما تقول الكاتبة والتى تدير مركزا لأبحاث المستقبليات فى التكنولوجيا بجانب تدريسها فى جامعة نيويورك.
حكومات الدول النامية يجب أن تعقد اتفاقا مع الشركات التى تقوم بالبحث العلمى حتى تتكامل فيما بينها، طبعا هذا ضد الكثير مما تدرسه كليات الاقتصاد (خاصة الرأسمالى) والإدارة، لكن يجب كسر قواعد تلك اللعبة فى بعض الأحيان.
تتبقى نقطة مهمة: الدول النامية يجب أن ينصب تركيزها على الأهداف الثلاثة التى ذكرناها أعلاه، كل ما تحدثنا عنه فى المقال حتى الآن ينصب فى أول هدفين، الهدف الثالث وهو العمل على عدم توسيع الفجوة التكنولوجية مع الدول المتقدمة يحتاج وضع عنصر للقوة الناعمة فى السياسة العلمية للدول النامية.
...
القوة الناعمة التى نتحدث عنها هى القوة الناعمة العلمية أى أن تظهر الدولة النامية بمظهر إيجابى أمام دول العالم وبالتالى تشجع التعاون مع الدول الأخرى. التعاون مع الدول المتقدمة يفيد فى تقليل الفجوة التكنولوجية، ولكن طبعا لن يلغيها لأن الدول المتقدمة ستظل تحتفظ ببعض الأسرار لنفسها. التعاون مع الدول النامية الأخرى يقلل من التكاليف الملقاة على عاتق كل دولة على حدة لتنفيذ سياستها العلمية.
القوة الناعمة تحتوى على عناصر عدة منها على سبيل المثال لا الحصر:
• النشر العلمى فى مجلات مرموقة خارجيا. النشر الخارجى فى مجلات ضعيفة لا يؤدى إلى شىء بل فى الغلب يضر.
• إرسال الدعوات للعلماء الكبار فى التخصصات التى تحتاجها الدولة فى سياستها العلمية للحضور إلى الدولة وإلقاء سلسلة محاضرات أو حتى المكوث لعدة أشهر لتدريس مادة أو مادتين.
• إحياء التراث العلمى للدولة ما أمكن وقد تحدثنا فى مقال قديم عن السياحة العلمية.
...
أخيرًا وليس آخرًا حتى تنجح السياسة العلمية لأى دولة يجب أن تتجنب بعض محظورات:
• يجب عدم الاهتمام بالجوائز العالمية على المدى القصير لكن الاهتمام بما يحقق فائدة سريعة لشعوب الدول النامية. مرحلة الجوائز ستأتى فى مرحلة لاحقة.
• الاهتمام بالخارج أكثر من الداخل مضر للغاية. القوة الناعمة مهمة لكنها تأتى فى المرتبة الثانية بعد الاهتمام بالمشروعات العلمية التى تعود بفائدة سريعة.
• مقاييس النجاح لأى مشروع يجب أن تكون دقيقة وتبرز فائدة المشروع وليس فقط لرسم صورة جميلة للمشروع. مثلا إذا كان هناك بحث علمى لتحسين كفاءة الخلايا الشمسية لتوليد طاقة نظيفة فإن مقياس النجاح ليس عدد الخلايا الشمسية وليس مقدار الطاقة المتولدة، ولكن المقياس الصحيح هو كمية الطاقة التى تم نقلها أو تخزينها (وهذا شىء فى منتهى الصعوبة ويستلزم الكثير من الأبحاث) ثم تم استخدامها فى البيوت أو المصانع أو الشوارع.
• يجب أن يكون الاهتمام بنجاح البحث العلمى والمشروع التكنولوجى أكثر أهمية من الاهتمام بالترقية والمناصب وفرص السفر للخارج لحضور المؤتمرات وعمل «شوبنج». هذه النقطة قد تغضب البعض لأنها ستبدو كأنها نصيحة مباشرة لذلك لن نستفيض فيها.
• البيروقراطية تقتل أى مجهود نحو الأمام وهى أحد أهم العوامل التى أدت إلى ضعف شركة مثل أى بى إم عمرها أكثر من قرن أمام شركات تعتبر حديثة العمر نسبيا مثل جوجل وميتا وأمازون.
السياسة العلمية مهمة لكل الدول لكنها للدول النامية أهم.
محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات