بينا فى مقال الأسبوع الماضى أن العالم يموج بكتابات ومراجعات حادة نقدية للنظام الرأسمالى الليبرالى الكلاسيكى وللنظام الرأسمالى النيوليبرالى العولمى المهيمن على ساحة الاقتصاد الدولية ولتجربة النظام الاشتراكى الماركسى القصيرة، وبينا أننا، نحن العرب، إذ نقوم بمراجعة للأيديولوجية القومية العروبية، كما هو الحال بالنسبة للمشروع النهضوى العربى المقترح من قبل مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومى العربى، نحتاج أن نسمى بصورة واضحة النظام الاقتصادى الذى يصلح لمجتمعاتنا العربية، آخذين بعين الاعتبار إرثنا التاريخى وثقافتنا، وتجارب بعض الأقطار العربية إبان العقود الماضية، وتجارب بعض دول العالم الثالث فى بناء اقتصاد وطنى غير خاضع لإملاءات القوى العولمية الرأسمالية.
تدل مراجعتنا لأدبيات الموضوع بأن هناك أسبابا موجبة وتجارب مريرة مع النظام الرأسمالى تستدعى تجربة نظام اشتراكى تشاركى ديمقراطى، يختلف جذريا عن النظامين الرأسماليين المشار إليهما سابقا من جهة وعن النظام الاشتراكى الماركسى بكل تلاوينه ومسمياته، وعلى الأخص تطبيقاته ومنطلقاته النظرية فى الاتحاد السوفييتى السابق، من جهة أخرى.
وما عادت كلمة الاشتراكية تعتبر جزءا من إرث مات وانتهى، ولا أنها تدل بالضرورة على ثورية متطرفة، وإنما أن تكون مدخلا لنظام اقتصادى متوازن إنسانى جديد ينقل العالم من فكر ونظام اقتصادى بتلاوين متعددة جربه العالم عبر أربعة قرون فعانى الويلات من نقاط ضعفه وأزماته الكثيرة.
أمامنا، نحن العرب، تجارب حديثة ومقترحات فكرية معقولة ومتوازنة للاختيار الكلى أو الجزئى.
أولا: هناك تجربة الديمقراطية الاشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية، المطبقة على الأخص فى دول الشمال الأوروبى، ولذا تعرف بالنموذج الاسكندنافى أو النوردى. إنها تجربة تقوم على أيديولوجية سياسية تدعو إلى تدخل اقتصادى واجتماعى من قبل الحكومة لترسيخ العدالة الاجتماعية ضمن إطار النظام الرأسمالى، ولصناعة سياسات للدفع باتجاه دولة الرفاه، وبإعادة توزيع الثروات والمداخيل، وتلتزم بالديمقراطية التمثيلية. وبالتالى فإنها تبنى الاقتصاد المختلط واقتصاد السوق الاجتماعى.
ثانيا: هناك تجربة الاشتراكية الديمقراطية، التى أخذت بها العديد من دول أمريكا الجنوبية على الأخص وتطبق أيضا فى نموذج الشمال الأوروبى. وهى نظام اقتصادى يتسم بالملكية الجماعية والإدارة التعاونية للاقتصاد. وإذن هى حركة سياسية تأخذ بإصلاح الرأسمالية ليكون هذا الإصلاح مدخلا للاشتراكية فى النهاية. ويعتبر من أشهر الأعلام الذين نادوا بهذا النظام كتاب من مثل جورج أورويل وبيرتراند رسل وقادة من مثل سلفادور ألندى.
وثالثا: أمامنا تجربة ما يعرف بالتعاونيات التشاركية القائمة على ملكية وإدارة مشاريع اقتصادية صناعية إنتاجية، أو مشاريع اقتصادية خدمية، من قبل القوى العاملة فى تلك المنشآت. فرأس المال مقترض من قبل وباسم العمال، وتعيين كبار الإداريين يتم من قبل العمال، واستعمال فوائض الأرباح وتوزيعها يقوم به أصحاب رأس المال، أى العمال. وبالتالى فهى تجارب اشتراكية بمسميات عصرية.
مثل هكذا تجارب موجودة الآن فى بلدان أوروبية من مثل إيطاليا وإسبانيا، وفى بعض الولايات الأمريكية، وفى بلدان آسيوية. وهى تجارب ناجحة وتزداد عددا وتأثيرا.
ورابعا: هناك مبادرات فكرية من قبل مفكرين وجهات تنظيمية عربية بشأن نظام اقتصادى عربى مستقبلى تحت شعار «اشتراكية عربية جديدة» أو شعارات أخرى مقاربة. ولأهمية تلك المبادرات وذاتيتها العربية سنبين أسسها الفكرية والتنظيمية المقترحة فى مقال الأسبوع القادم.
المهم من وراء كل ما ذكرناه أن كلمة وشعار الاشتراكية أصبح هنا، معنا ومع العالم، وأن واجب الأيديولوجية القومية العروبية أن تأخذ علما بذلك، دون غمغمة أو دوران حول موضوع النظام الاقتصادى العربى المطلوب إنسانيا وعدلا وكفاءة.