العائد على تصدير رأس المال البشرى يتجلى فى أبهى صوره هنا فى مدينة الأقصر حيث فاعليات الدورة الثالثة لمؤتمر مصر تستطيع تحت رعاية الرئيس السيسى، وبرعاية من البنك المركزى المصرى وبدعوة كريمة من وزيرة الدولة للهجرة وشئون المصريين فى الخارج. عند كتابة تلك السطور لم يكن المؤتمر قد عقد أولى جلساته، ومازال من المقرر أن يفتتحه السيد رئيس الوزراء ويحضره ويشارك فى جلساته عدد كبير من الوزراء والمسئولين فى الجهازين الحكومى والإدارى للدولة فضلا عن رموز مجتمعية متعددة، فى إشارة مؤكدة إلى أهمية الحدث.
المؤتمر نشأت فكرته على أساس تعظيم الاستفادة من الخبرات المصرية العاملة فى الخارج، والتى تركت بصمات بارزة فى مجالات التميز العلمى والعملى المختلفة.
كبار المدعوين وصغارهم يحلون ضيوفا على علماء مصر ونخبة من خيرة ما أنجبت البلاد. يتلقون المعارف ويتبادلون الخبرات فى حوارات مفتوحة وجلسات نقاشية يستخلص منها ثمرة الاحتكاك بجامعات الغرب ومعاهده ومختلف أوجه النشاط والعمل به، بينما تكون الأوجاع المصرية الخالصة هى محورالنقاش ومادته.
يشارك فى المؤتمر 23 من العلماء المصريين فى الخارج فى مجالات الزراعة والرى وتكنولوجيا إدارة الموارد المائية. الطبيعة التخصصية للمؤتمر جعلت المساواة بين الجنسين صعبة فى تمثيل العلماء الحضور، إذ غلب الذكران بشكل واضح على مختلف الجلسات، ولا أستطيع أن أميز من الجنس الآخر سوى الدكتورة إيمان غنيم قادمة إلى الصعيد من الولايات المتحدة.
***
فى هذه الدورة ينعقد المؤتمر تحت شعار مصر تستطيع بأبناء النيل، إذ تدور الجلسات حول مستقبل المياه فى مصر وهو أخطر الموضوعات التى ينبغى على كل مصرى أن يعنى بها. تتناول جلسات اليوم الأول نقاشا حول آليات تعظيم الاستفادة من الموارد المائية المتاحة، واقتصاديات تكنولوجيا معالجة وتحلية المياه تلك التى تنقل أزمة المياه وحروبها المتوقعة مستقبلا إلى مضمار الطاقة كما سبق أن أشرنا فى مقال سابق علما بأن تكنولوجيا تحلية المياه تعد كثيفة استخدام الطاقة وهى التى حدت بالمملكة العربية السعودية إلى استهلاك نحو ٨٠٪ من إنتاجها من النفط. يتناول اليوم الأول أيضا التحديات المائية فى ظل التغيرات المناخية، وهو من الموضوعات التى تفرض نفسها على جميع أجندات المؤتمرات المعنية بمجال التنمية المستدامة، ومازلت أذكر زميلة لى فى لجنة الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات وهى تخبرنى بأزمة الفقر المائى فى جنوب إفريقيا والتى تجعلها معنية بالاقتصاد الأزرق (فى إشارة إلى المياه) قبل الاقتصاد الأخضر. يناقش علماء مصر فى الخارج خلال جلسات اليوم الأول أيضا الإدارة المستدامة لمنظومتى الرى والصرف، ويتطرق النقاش إلى منظومة أمن المياه والغذاء والطاقة وتأثيرها على التنمية المستدامة، فى اتصال واضح مع رؤية مصر للتنمية المستدامة ٢٠٣٠. وإذ تتصل أزمات الشح المائى دائما بمستلزمات الطاقة تخصص جلسة كاملة لفرص استخدام الطاقة المتجددة فى الرى والمجتمعات الجديدة.
فى اليوم الثانى للمؤتمر تتعدد الجلسات التى تعقد بشكل متوازٍ مثل جلسات اليوم الأول، فيحار الحضور فى اختيار أقرب النقاشات إلى دائرة اهتمامهم.
هناك جلسة نقاشية موضوعها تطبيقات تكنولوجيا الفضاء فى الرى والزراعة، وتلك جلسة خصصت للاستثمار المحلى والأجنبى فى مجالات المياه.
الريف الجديد له حظه من النقاشات التى تبحث فى بدائل تحقيق استدامة المجتمعات الريفية عوضا عن تحولها إلى مناطق طرد سكانى ومطمع للتبوير والتجريف وسائر طرق التعدى على الرقعة الزراعية. وهى مسائل تحتاج إلى «توعية وإرشاد فى مجالات المياه والزراعة»، عنوان إحدى الجلسات النقاشية التى يديرها ويشارك فيها عقول مصر المهاجرة، التى صدرت إلى الخارج ولم تكتف بتمويل ميزان الخدمات بتحويلات العاملين من النقد الأجنبى، بل تحينت الفرصة لتحويل خلاصة التجارب العلمية والعملية لتصب فى الناتج القومى لمصر عبر وسائط مختلفة.
التواصل مع مصرى مغترب عن طريق فتح قنوات مستقرة للربط بينه وبين مواطنيه المقيمين وأزماتهم العضال، التى اكتشفت الدول المتقدمة حلولا لها عبر الزمن ونقلت فنيات التعامل معها للمصريين المغتربين الذين تميزوا فى مجالات دراستهم وعملهم، هو عمل وطنى واقتصادى فى آن واحد، إذ يوفر على الدولة كثيرا من تكاليف إيفاد البعثات التدريبية والتعليمية، وتكاليف استيراد بعض صور التكنولوجيا الحديثة التى تتمثل فى استضافة المحاضرين الأجانب فى مختلف التخصصات.. ناهيك عن عائدات وتحويلات العاملين فى الخارج التى تناولناها آنفا.
***
نادرة فى مصر المؤتمرات التى تحقق الكثير من الأهداف مع الحرص على المتابعة والاستمرار، خاصة أن مفتتح كل دورة من دورات مصر تستطيع يستعرض ما نتج عن فاعليات الدورة السابقة. كذلك يبدو السياق العام لموضوعات المؤتمر فى دوراته المختلفة متصلا برؤية مصر المستقبلية وتحديات تحقيق التنمية المستدامة بموضوعاتها المختلفة وكان موضوع الدورة السابقة «التاء المربوطة» كناية عن المرأة ودورها فى مجتمع يسعى إلى تحقيق المساواة بين الجنسين كأحد أبرز أهداف التنمية المستدامة التى تبنتها الأمم المتحدة عام ٢٠١٥.
من المهم أن ينتج عن هذا المؤتمر عدد من الأوراق التى تشكل لبحثها فرق عمل متفرغة لتحويل توصيات تلك الأوراق إلى تجارب عملية ومشروعات ترعاها الدولة ويشارك فيها القطاع الخاص تحقيقا لمسئوليته الاجتماعية. يتعين أيضا أن تنشر تلك الأوراق البحثية فى دوريات علمية دولية متخصصة بعد استيفائها لشروط وقواعد النشر العلمى، حتى نتأكد من أصالة الرأى المتضمن ومن قابلية الحلول والبدائل المقترحة للتطبيق، وحتى نعظم الفائدة من اجتماع عدد كبير من العقول المتخصصة النابهة فى مكان واحد، وحتى يحظى المؤتمر بمصداقية عالمية ودعم من المؤسسات الدولية فى دوراته المقبلة وفيما يسفرعنه من نتائج.
بقى أن أشيد باختيار مكان إقامة المؤتمر على ضفاف النيل، وفى أعرق مدن العالم وأكثرها استئثارا بكنوز الحضارة البشرية من معارف وفنون وآداب. هنا قدس المصرى القديم نهر النيل «حابى» وجرم التعدى على مجراه، وهنا وضع سبل قياس منسوبه، وطور أدوات الرى والصرف والزراعة قبل أن تنشأ الدول التى نستقبل منها اليوم أبناء مصر المغتربين، بعد أن وجد العلم أرضا خصبة فى تلك الدول. أختيرت مدينة الأقصر عاصمة للسياحة العالمية عام ٢٠١٦ وعاصمة للثقافة العربية عام ٢٠١٧.
ساءنى إثارة عدد من المشاركين أزمات مفتعلة بسبب مواقعهم من الجلوس فى الطائرة أو فى القاعة ظنا منهم بأن فى الترتيب حطا من مكانتهم ومقاديرهم! نصيحتى لكبار الزوار أن يتأسوا بالغرب فى تلك المسألة (إن لم يجدوا فى سَنَن العرب والمسلمين ما يكفى من الأسوة والأمر بالإفساح فى المجالس عند الطلب!) وأن يزيلوا أى نوع من التمييز إلا على أساس درجة المشاركة فى الفاعليات، فيتقدم المتحدثون ويتأخر سائر الحضور بغير حساسيات. يضربون بذلك مثلا فى عدم الاكتراث بالشكل فى سبيل نجاح المضمون.