ــ 1 ــ
تحت هذا العنوان الذى يتصدر المقال؛ عُقدت فعاليات التظاهرة الثقافية الأكبر؛ مصريا وعالميا، التى اختتمت نشاطها فى السابع من فبراير الجارى. وقد شهدت من ضمن ما شهدته من إصداراتٍ جديدة؛ طفرات حقيقية فى الكتب الصادرة عن دور النشر المصرية الخاصة والرسمية، والتى تعالج موضوعات تتصل بالحضارة والثقافة والتاريخ المصرى لطالما مورس ضدها الإقصاء والتشويه والكذب والتدليس لعقودٍ طويلة!
من بين أهم هذه الإصدارات الجديدة فى معرض الكتاب فى دورته المنقضية؛ تلك الاستكمالات الممتازة من سلسلة (الهوية) التى تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، للعام الثالث على التوالى، بإشراف الصديق العزيز الشاعر جرجس شكري، والصديق العزيز المسرحى عماد مطاوع، وذلك فى محاولة جادة ورصينة لتقديم الكتب التى تتناول «هوية مصر»، وشخصيتها، وثقافتها، وملامحها عبر العصور المختلفة والمتعاقبة؛ تلك القضية التى كانت الشغل الشاغل للمؤرخين والباحثين والمفكرين والأدباء والمبدعين، فأنفقوا حياتهم فى البحث عن «ملامح الشخصية المصرية»، وعن مجمل السمات التى تميزها عن غيرها.
21 عنوانا جديدا تعالج موضوعاتٍ غاية فى الأهمية تتصل بالتاريخ المصرى القديم، والحضارة المصرية القديمة، وجوانب من الثقافة الإنسانية التى أنتجتها تلك الحضارة منذ أقدم العصور وحتى الآن. عنها يقول الصديق الكاتب المسرحى المرموق عماد مطاوع مدير تحرير السلسلة:
«لاقت الكتب الجديدة من كتب «الهوية» التى تصدر للعام الثالث على التوالى لتكمل 45 عنوانا إقبالا منقطع النظير. الكتب تتناول جميعها «هوية مصر» من جميع جوانبها، ولعل هذا الإقبال يعيد إلينا الأمل من جديد فى ذائقة القراء، خاصة الشباب».
ــ 2 ــ
تتميز الغالبية من كتب «الهوية»، هذه المرة، بأنها تعرض لجوانب شتى من الحضارة المصرية القديمة، وعلى كل المستويات، فتعرض لحياة المصرى القديم فى معتقداته وحياته اليومية، وعلاقاته الاجتماعية، وطقوسه وممارساته وعاداته، وتصوراته للحياة بعد الموت وفكرة الخلود والديمومة، الحساب والمصير والنصوص التى أبدعها (مقدسة ودنيوية)؛ مثل «متون الأهرام» و«الخروج للنهار»، وغيرها مما كدنا أن ننساه، وأن ينطمر تحت ركام الجهل والتطرف والانغلاق ودوامات التعصب التى حاصرتنا من كل جانب طوال عقود طويلة للغاية؛ ندفع ثمنها مرا وعلقما الآن!
من هذه العناوين الرائعة: «مصر القديمة» لجان فيركوتير، و«الديانة المصرية القديمة» لياروسلاف تشرنى، و«تاريخ مصر القديمة» لنيقولا جريمال، و«الآلهة والناس فى مصر القديمة»، والكتاب المرجعى المهم «نصوص مقدسة ونصوص دنيوية من مصر القديمة» لكلير لالويت فى مجلدين، و«الحياة الاجتماعية فى مصر القديمة» لفلندر بترى، و«علم المصريات» لدومينيك فالبيل.. وغيرها من الكتب الرائعة التى غطت علوم المصريات، والتاريخ المصرى القديم، كأحسن ما يكون.
ولم تغفل هذه المجموعة من سلسلة (الهوية) كتبا أخرى عالجت جوانب من التاريخ والثقافة والتكوين والأيديولوجيا فى مصر عبر العصور، بعد حقبة الحضارة المصرية القديمة؛ منها على سبيل المثال؛ دراسة أنور عبدالملك المرجعية «نهضة مصر ـ تكون الفكر والأيديولوجيا فى نهضة مصر الوطنية (1805ــ1892)»، ودراسة نعمات أحمد فؤاد الجميلة «شخصية مصر»، و«مصر المدنية» للمؤرخ الوطنى الراحل يونان لبيب رزق، ورسالة حسين مؤنس الرصينة «مصر ورسالتها»، و«دراسات فى تاريخ مصر السياسى منذ العصر المملوكى» لفوزى جرجس.. وغيرها من الأعمال المرجعية الرائعة.
ــ 3 ــ
وأنا أرى ظهور هذه الكتب الآن يحمل من الدلالات الكثير، فهذه الكتب التى بالمناسبة ليست جديدة، وليست مؤلفة حديثا، إنما هى من كلاسيكيات علم «المصريات» بمعناه العلمى والمعرفى والتاريخى، كتبٌ تمثل حجر الزاوية فى تكوين معرفة تأسيسية وأصيلة بحضارتنا المصرية القديمة التى أُريد لنا على مدى ــ عقود طويلة ماضية ــ التسفيه منها وتشويهها، ووصفها بأنها حضارة أوثان وأصنام وشرك وتعددية!
أريد لنا أن نتنصل وننسلخ من كل الأبعاد والطبقات والرقائق الحضارية التى تراكمت عبر آلاف السنين على أرض مصر، وعلى ضفاف نهرها الخالد، وفى أنحاء مساحتها الجغرافية الشاسعة؛ مصر التى استوعبت كل الأعراق وكل الأجناس، وكل الثقافات، وصهرت ذلك كله فى بوتقتها الإنسانية والحضارية والثقافية، وأنتجت للبشرية ثقافة متحضرة منفتحة تقبل التعدد والتنوع وتلفظ الانغلاق والتعصب، وتتواصل وتتحاور مع الآخر؛ أى آخر من أى دين أو ملة أو جنس أو نوع، إنها مصر التى عاش على أرضها اليونانى والإثيوبى والليبى والعربى والتركمانى والشركسى، ومن كل ملة ولون.. عاشوا فيها وتعايشوا على أرضها وشربوا من نيلها وأسهموا فى سريان نهر حضارتها وسيولة ماء ثقافتها النقى العذب السائغ للشاربين.
هذه هى مصر التى أريد لنا ألا نعرفها، وأن تطمس معالمها، وتُطمر آثارها ومعابدها ومسلاتها تحت رمال الجهل والتخلف والتسفيه والحقد والتعصب الأسود، مصر التى أريد لنا ألا نتعرف على جذورها الضاربة فى أعمق أعماق التاريخ، وألا نرى وألا نعرف أو نتعرف على ما أنتجته وقدمته للبشرية عبر التاريخ وعبر العصور..
يحضرنى هناك استشهاد دال من خطاب نجيب محفوظ الذى ألقاه نيابة عنه الكاتب والمسرحى القدير محمد سلماوى أمام ملك السويد فى حفل تقليده جائزة نوبل فى الآداب عام 1988؛ يقول نجيب محفوظ:
«دعونى أقدمها ــ الحضارة الفرعونية ــ بما يشبه القصة، تقول أوراق البردى: إن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع فلا يشذ فى تصرفه عن مناخ زمانه. ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون. وطالبهم بالتحقيق فيما نما إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل. ذلك السلوك فى رأيى أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات وأدل على تفوق الحضارة من أى أبهة أو ثراء».
(وللحديث بقية...)