الفرنسيون يتغيرون - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الفرنسيون يتغيرون

نشر فى : الأربعاء 26 أبريل 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 أبريل 2017 - 9:25 م
صعب تصديق أن الساحة السياسية الفرنسية بمعالمها الشهيرة تغيرت خلال أسابيع معدودة. جرت انتخابات تمهيدية فى تقليد واضح وعلنى للتجربة الأمريكية. تنافس المرشحون من الحزب الواحد فى انتخابات تمهيدية. إلى هنا يفترض أن تنتهى التجربة الأمريكية وتعود الانتخابات إلى تقاليدها الفرنسية حين يتنافس الفائزون من جميع الأحزاب ومن خارجها فى جولة أولى يعقبها جولة ثانية.

عودتنا فرنسا فى عديد انتخاباتها الرئاسية والتشريعية على احترام استقطابها الأساسى، فالقضايا فى فرنسا تدور حول يمين ويسار والمرشحون ملتزمون بعقيدة أحزابهم وتوجهاتها. حدث فى هذه الانتخابات وللمرة الأولى أن يصل مرشحان يتنافسان على منصب رئيس الجمهورية لا ينتميان إلى أى من الأحزاب السياسية الأكبر. حدث شىء مماثل فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة حين وصل إلى المرحلة الأخيرة من الترشيح دونالد ترامب دون ترشيح من الحزب الجمهورى. لم يحصل ترامب على حق تمثيل الجمهوريين إلا بعد أن فرضت شعبيته نفسها على الحملة الانتخابية وعلى النخبة السياسية وفى النهاية على الحزب الجمهورى.
أثار الانتباه فى انتخابات فرنسا هذه المرة أن كلا من المرشحين اللذين فازا ووصلا إلى الجولة النهائية استخدم أساليب شعبوية فى حملته الانتخابية مثل تلك التى استخدمها المرشح ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ومن نوع الأساليب التى يستخدمها الرئيس فلاديمير بوتين. لا يفوتنى الإشارة إلى أن كلا من ترامب وبوتين استقبلا السيدة مارين لوبين رئيسة الجبهة الوطنية ولم يخفيا تشجيعهما لها. لا يفوتنا أيضا أن القضايا الرئيسة المطروحة فى هذه المرحلة من الانتخابات تحتل مكانة متقدمة فى اهتمامات الرئيسين الأمريكى والروسى. الاستقطابات الجديدة فى الساحة السياسية الفرنسية بشكل عام وفى الانتخابات الجارية بشكل خاص تدور حول عولمة ورفض لها والاندماج فى أوروبا الموحدة أم الانسحاب منها، وأخيرا حول أسبقية تركيز الاهتمام على المدن أم على الريف.
***
من هنا كثر الحديث عن الأهمية القصوى للجولة القادمة فى انتخابات الرئاسة الفرنسية. فالرئيس القادم، إن كان السيدة لوبين فهى تتعهد إخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبى، وإن كان السيد ماكرون فيتعهد دعم الاتحاد الأوروبى والعمل على تعويض الخسارة الناجمة عن خروج بريطانيا. تتعهد لوبين أيضا إقامة أسوار حماية جمركية والعمل إقليميا ودوليا على تحرير بلادها من اتفاقيات دولية تضر بالاقتصاد القومى، بينما يتعهد ماكرون بتسهيل اندماج فرنسا فى السوق العالمية.
من ناحية أخرى يتوقع كثيرون دعما مباشرا لماكرون من جانب حكومة أنجيلا ميركل فى ألمانيا. فوز ماكرون يعنى الكثير بالنسبة لألمانيا. يعنى بشكل من الأشكال رد الاعتبار للاتحاد الأوروبى الذى ما زال يعانى من آثار صدمة البريكسيت. بل ويعنى قوة أكبر للمفاوضين الأوروبيين الذين سوف يباشرون التفاوض فى قضية تاريخية يترتب على مسيرتها نتائج تحدد مصير الاتحاد الأوروبى بأسره. فوز ماكرون على لوبين يعنى أيضا ضربة شديدة للتيارات اليمينية والقومية المتطرفة التى تهدد استقرار عديد الدول الأوروبية وتتعهد طرد مهاجرين ووقف هجرة المسلمين وإغلاق مساجد وتقييد حرية مرور الأفراد. الغريب فى تطورات الأسابيع الأخيرة وقوف الرئيس الطيب أردوغان إلى جانب كل من الرئيسين بوتين وترامب لصالح الجبهة الوطنية، حين تعمد تعميق الوقيعة بين الأوروبيين حول قضية التعامل مع المواطنين من أصول إسلامية.
***
لا يمكن التقليل من أهمية فوز ماكرون فى الجولة الماضية واحتمالات فوزه فى الجولة القادمة. يحسب له أنه قاد معركة انتخابية جيدة فى ظروف بالغة الصعوبة، يكفى القول إنه فاز وقد يفوز فى النهاية رغم أنف كل من الرئيس ترامب والرئيس بوتين، وفى وقت يعانى فيه الفرنسيون من أخطاء عديدة تقع فيها بيروقراطية الاتحاد الأوروبى وفى وقت يقع الرأى العام الفرنسى فيه تحت ضغط معنوى رهيب نتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد. فاز أيضا بالرغم من قوة الشخصيات اليسارية واليمينية المتطرفة التى شاركت فى الجولة الأولى من الانتخابات، منهم مثلا هامون وجان لوك ميلينشون فى أقصى اليسار وفيون فى أقصى اليمين. أتصور أنه من حسن التقدير رغم صغر سنه وقلة تجربته أنه اختار أن يتحرر من الأحزاب، فتخلص من أعبائها ومسئولية الدفاع عن فسادها وقلة حيلتها وسوء سمعتها، وبذلك استطاع أن يبدع ويجدد. إلا أن تخلصه من الأحزاب قد لا يطول لأنه سيتعين عليه فى الانتخابات التشريعية التى سوف تجرى بعد أسابيع قليلة تشكيل حزب أو ائتلاف أحزاب لمساعدته فى تنفيذ الإصلاحات التى وعد بها الناخبين.
***
هناك مبالغة فى وصف ما حدث ويحدث فى فرنسا بالتاريخى. جديد بالفعل أن يأتى إلى قصر الإليزيه رئيس لا ينتمى لحزب من الحزبين الرئيسين أو لحزب ما. جديد أيضا أن يفلح شاب صغير فى اقتحام قلعة السياسة فى فرنسا، القلعة التى تحرسها رموز متقدمة فى العمر من نخبة يسارية ويمينية عتيدة وجذورها ممتدة إلى أعماق بعيدة فى المجتمع السياسى والثقافى الفرنسى.
أشارك القائل بأن انتخاب الشاب ماكرون مرشحا محتملا لرئاسة الجمهورية الفرنسية تكريم جاء متأخرا لثورة ربيع 1968 وتأكيدا لحاجة أوروبا الملحة للإصلاح.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي