يحكى أن ثلاثة رهط من أثرياء بلاد النهر (الهندوستان) كانوا يأنسون فى ناديهم إلى قصص السابقين من الأنبياء والصالحين فتأخذهم الغبطة، وتسكنهم رغبة فى اجتراح المعجزات والكرامات، ويرجون لو أنهم كانوا أصحاب رسالة كما هم أصحاب مال ونعيم.
وفى إحدى ليالى سمرهم، انشق المجلس عن رجل أشيب وقور، عرفوا من هيئته ولباسه أنه قادم من بلاد الغرب، ولما كلّمهم علموا منه أنه من بلاد «يوردانيم» التى نعرفها اليوم باسم «الأردن». كان الرجل هادئا وقد بدت عليه علامات إجهاد السفر، فتقربوا منه، وأحسنوا ضيافته، وسألوه عن بلاده وأخبارها وأسرارها. اطمأن لهم عابر السبيل وتوسّم فيهم الصلاح، وأخذ يقص عليهم من أنباء أصحاب الرقيم، وكيف لبثوا فى الكهف أكثر من ثلاثمائة عام، ثم بعثهم الله من مرقدهم، وقد خلّص بلادهم من الظالمين، وصاروا آية تتناقلها الأجيال. وقع القصص فى أفئدتهم موقعا عظيما، أدركوا أن فضل العارفين لا يبلغه إلا من كان ذا عزم وصبر على الملمّات، وما إن خلوا إلى أنفسهم حتى عقدوا العزم على أن يعتكفوا فى أحد كهوف الجبال المتاخمة لحدود بلدتهم، ربما أنزل الله عليهم من حبائل رحمته ما يلتمسون به سبيلا إلى خالق الكون.
• • •
انطلق ثلاثتهم بليلٍ، قاصدين كهفا بعيدا لا تمر به القوافل، وتستوحشه الضوارى وكواسر الطيور. حمل الخدم متاعهم وطعامهم وشرابهم إلى حيث نزلوا، وانصرفوا عن سادتهم على ألا يعودوا إلى الكهف إلا بعد شهر، حاملين طعاما وشرابا جديدا. كان عليهم أن يحفظوا سر الأسياد، ولا يخبروا بشرا بمقامهم حتى أقرب الناس من زوجات وعيال. كان الكهف مظلما رطبا كئيبا ترتعد له الفرائص، ويسمع له خوار، لكن أصحابنا استعانوا عليه بإيمانهم، أنهم لن يخرجوا منه إلا وقد حملوا خبرا من السماء.
مرت عليهم أيام ثقال، ثم توالت الشهور وقد اعتادوا ظلمة الكهف، لا يتصلون بالعالم إلا مرة واحدة كل شهر، حيث يتناوبون على الخروج عبر الوصيد إلى فوهة الكهف، يستلم أحدهم الطعام والشراب الذى تركه الخدم حيث أمرهم أربابهم المعتكفون. عندها يلمح المستلم شيئا من نسيج الشمس ساربا فوق الجنبات، وربما لفحته نسائم الفضاء الوادعة التى لم تعطنها أنفاس الكهوف، فيتملكه الحنين إلى من ترك وما ترك من النعم.
ثلاث سنوات مرت عليهم، كان آخرها أيسر من أولها؛ حيث اعتادوا الصمت والتأمل، وزهدوا فى تبرير تعاستهم التى مضوا نحوها طائعين، فما لبثت الأيام الراحلة تباعد بينهم وبين طريق عودتهم إلى الديار، فما عساهم يعودون أصفار الأيادى، بلا وحى ولا رسالة. فليصبروا إذن كما صبر أولو العزم وأصحاب الكهف، غير أنهم تمنوا لو أخذتهم غفلة طويلة من النوم فلا يشعرون ببطء الزمن. على كل حال، لم تعد الأيام تحصى كما كانت فى الخارج، فقد أصبح لها نمط رتيب، غارت معه حواسهم فى أعماق لم يبلغوها من قبل، ولعل تلك السكرات التى انتشوا بها فى هدأة السكون المقيم، كانت سببا فى عدم خروجهم من الكهف، أملا فى أن تكون بعض بشائر الرسالة السماوية. ثم كان أن انقطعت المؤن فجأة وبغير إنذار.. مرت الأسابيع وهم يقتسمون الزاد بإقتار شديد، ريثما يعود إليهم الخدم بما يقيم أودهم، لكن أحدا لم يعد.. ثم ما لبثوا أن تدهورت صحتهم، وبدأوا يتصارعون على ما بقى من فتات الخبز وقطرات الماء.. حتى غشيهم ليل كثيب، وأجمعوا خلاله أمرهم على أن يغادروا الكهف يوما أو بعض يوم، يستطلعون أسباب انقطاع المؤن ويعودون بشىء يسير منها.
خرج الثلاثة من كهفهم يترنحون من النصَب، وأول ما أدهشهم وألقى فى قلوبهم الهلع ما عاينوه من أثر السنين على هيئاتهم.. عتمة الكهف كانت تستر كل هذا القبح عن أعينهم. ريح الصحراء الطيبة سرعان ما أزكمت أنوفهم بعدما خالجت أجسادهم وأسمالهم، التى قلما لامست المياه طوال تلك السنين، كان الكهف كالقبر لا نور فيه ولا نسائم.
• • •
دلف المنحدرون من الكهف إلى بلدتهم عند شروق الشمس، ففزع الناس لمنظرهم، وخلت الطرقات إلا من مختلسى الأنظار من وراء الحجب وأبواب الحوانيت نصف الموصدة. ما هى إلا ساعات خلت، حتى بدأت الحقائق تنكشف تدريجيا. أما الخدم فقد تآمروا على سرقة ما بقى من أموال سادتهم، بعدما خلت بيوتهم من النساء والولد، الذين فرّوا من البلدة بغالب الثروات هربا من لمز الناس بهم.. فقد سلخوا بألسنة حداد، واتهمهم البعض بقتل أرباب بيوتهم أو فى القليل بإجبارهم على الهجرة من البلاد، أو سلوك مدارج المجاذيب والبهاليل لما عرف عنهم من الولع بقصص الأنبياء.. عندها فقط قرر أصحاب الكهف ألا يعودوا إليه، لأنهم لن يصمدوا فيه بغير مدد يوما واحدا.
لكن شيئا عجيبا حدث بعد ذلك، فقد التف عدد من فتيان البلدة وبعض كهلوها بالعائدين، والتمسوا فيهم البركة واستجلاب الأرزاق، ونسجوا حولهم قصصا من بنات الخيال… جمع الناس أموالا أقاموا بها معبدا وقصرا للذين خرجوا من الكهف.. غير أن سنوات الاعتكاف كانت قد أفسدت عقولهم، وغدر الأهل والخدم آثار الحقد فى قلوبهم فساءت أخلاقهم. أما أحدهم فقد استبدت به شهوة المال، فصار يسطو على أموال الناس وينهبهم مستكثرا لنفسه ولأتباعه من الذهب والفضة. وأما الثانى فقد وضع يده على البساتين، وأمر أتباعه أن يستوطنوا أكثرها خصبا وأقربها من الوادى. وأما الثالث فكان يضم إلى حريمه حرائر النساء، معتديا بذلك على الدين والأعراف، لكن أحدا لم يجرؤ على مواجهتهم بعدما كثر حولهم أراذل المريدين والمستفيدين، وما أكثرهم فى تلك الأنحاء.
استمرت الحال كذلك سنوات شاب لها الولدان، حتى صار العابرون بالبلدة يتجنبونها لفرط ما أذيع عنها من ظلم وعدوان. وتغير اسمها إلى «بلدة الذين خرجوا من الكهف». وفى إحدى الليالى التى كانت البلدة تحييها لمرور ذكرى الخروج من الكهف، جلس ثلاثتهم بالمعبد المشيد، يتذكرون ما كانوا عليه قبل سنوات الاعتكاف، وبدت عليهم علامات الندم وشىء من يقظة الضمير.. ثم قرروا أن يقدموا على أفعال للخير عساهم يمحون بها ما اقترفوا من كبائر.
أما مكتنز المال، فقد وهب نصف ماله لرعاية الفقراء الذين غصت بهم الطرقات. وأما محب النساء، فقد أعتق أكثرهن حسنا ووهبهن مالا كثيرا.. وأما صاحب البساتين فقد وهب نصف غلالها لرعاية الأيتام والمرضى. ولما انتشر نبأ أعمال الخير التى باتوا يقومون بها، بدأ الأتباع ينفضّون من حولهم تباعا، ثم سرعان ما استشعر اللصوص الوهن فيمن دلفوا من الكهف، وقرروا الإغارة على قصرهم ومعبدهم، فنهبوا كل ما فيهما من خيرات، واستباحوا النساء، وقتلوا كل من تصدى لهم من قليل الخدم.
عندئذ، وجد العائدون من الكهف أنفسهم غرباء مطرودين من الديار. انطلقوا قافلين إلى كهفهم تشيعهم اللعنات والرحمات معا! حاملين معهم كل ما استطاعوا من الزاد، ولكنهم هذه المرة لم ينتظروا مددا من الخارج، ولم يحسبوا لذلك أى حساب. اتفقوا على أن يبقوا فى كهفهم ما شاء الله لهم البقاء، حتى يستخلصهم الخالق برسالاته، أو يختصهم برحماته، أو يهلكوا دون ذلك.