السياسة وأمراضها - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:32 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة وأمراضها

نشر فى : الأربعاء 26 يوليه 2023 - 10:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 يوليه 2023 - 10:05 م

من عاداتى الطيبة الاستيقاظ متفائلا ومقبلا على صباح سعيد. كتبت ذات صباح من الأسبوع الماضى متأثرا بهذه الحالة وبتطورات على أرض الواقع ونتيجة مناقشات مع أصحاب رأى أحترمهم، كتبت متطلعا إلى نهاية قريبة لحرب دائرة بين العالم الغربى وروسيا على أرض أوكرانيا وبشعبها. كتبت والحرب مستعرة والصواريخ والطائرات المسيرة تكاد لكثرتها تغطى وجه الشمس. تكاد تخفى فى الوقت نفسه مظاهر تعب وإعياء فى لغة الأجساد بل وفى لغة الكلمات المتبادلة بين السياسيين المتحاربين. بعد قليل من التأمل نكتشف أن الأمر لا يتوقف عند «أمراء الحرب» المباشرين، بل تمتد الظاهرة لتشمل السياسيين فى دول عديدة خارج دائرة الحرب.
• • •
أعترف مع كثيرين أن السنوات الأخيرة كانت صعبة ولم ينج من التعرض لآثار صعوباتها إلا القليلين من السياسيين وأصحاب القرار. وحدها كانت جائحة الكورونا سببا كافيا لإنهاك أفراد النخب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة على حد سواء. لكنها لم تأتِ منفردة. جاءت وفى ركابها، أو سبقتها، تعقيدات أزمة اقتصادية غير منفصلة تماما عن الأزمة المالية المستحكمة والخانقة التى ضربت الدول وأسواقها فى نهاية العقد الأول من القرن الجديد. اجتمعتا، أزمة الكورونا وأزمة الاقتصاد، مع موجات متدفقة ومتلاحقة من ردود الفعل للعولمة، ردود أمريكية بخاصة ولكن أيضا دولية، أغلب الردود أخذت شكل سياسات وقرارات حمائية ودفعت إلى سطح الأحداث بتيارات وتوجهات قومية أو دينية أو عنصرية أو جميعها فى آنٍ ومتطرفة أيضا.
هذه الأحداث والتيارات والأزمات وظروف أخرى موجودة وفاعلة مع استعداد نفسى بالضرورة جسدت لهذه المرحلة فى التاريخ الحديث شخصيات سياسية لا أقول فريدة ولكن لكل منها طابع خاص واهتمام مختلف. تسببت فى الوقت نفسه فى تفشى أنواع شتى من أمراض السياسة. منها أمراض عهدناها تأتى لمرحلة وترحل ومنها أمراض مقيمة لا ترحل وأمراض تنتقل بين الدول بالعدوى وأمراض يتوارثها الأبناء. منها أمراض تصيب السياسيين ضعاف النفوس والشخصية، وعلى العكس يمكن أن تصيب أيضا سياسيين مصابين بداء العظمة. تصيب أيضا وبكثرة السياسيين من ذوى النزعة أو الخلفية الدينية. كثيرون من قادة الدول، فى أفريقيا خاصة، يعتقدون أن كرسى الزعامة، وكان فى الأصل جذع الشجرة المخصص تاريخيا لشيخ القبيلة، هو حق لهم بالوراثة حتى البعيدة.
آخرون نبشوا فى زوايا التاريخ بحثا عن جذور حضارة أو عقيدة يتمسحون فيها عساهم يجدون فيها ما يبرر حقهم فى زعامة أو قيادة. تابعت زيارات السيد ناريندرا مودى رئيس وزراء الهند إلى دول فى الغرب وفى الشرق. الرجل متهم فى الغرب بأنه لا يحترم مبادئ حقوق الإنسان. وفى الحقيقة الرجل لم يكذب أو يخدع. كان رئيسا للوزراء فى ولاية جوجارات على رأس حزب ينتمى إلى جماعة دينية متطرفة اغتال أحد أعضائها المهاتما غاندى فى الأربعينيات ولم تندم الجماعة أو تعتذر للشعب الهندى على ما فعلت، بل واصلت صعودها فى السياسة الهندية متمسكة بمبادئها العدائية لحوالى مائتى مليون هندى مسلم وملايين تدين بأديان أخرى.
ليس بالمهمة العادية أن يحكم إنسان بلدا باتساع الهند يسكنه أكثر من مليار وثلاثمائة ألف نسمة يتحدثون بأكثر من أربعمائة لغة ويدينون بعديد الأديان ويتوزعون على تراتيب طبقية دينية ملتزمة وراسخة. بين هؤلاء آلاف هم بين الأكثر ثراء فى العالم وملايين هم الأشد فقرا، وفى ترسانات هذا البلد وتحت إمرة هذا الحاكم ومشيئته عدة مئات من القنابل النووية. نشأت الهند وفى زوايا النشأة حرب دائمة مع باكستان وحرب متقطعة مع الصين ومسئوليات جمة فى جنوب آسيا وفى العالم. مثل غيره فى عديد دول الجنوب ما كان هذا الرجل أو غيره ليصعد ويصل مع حزبه إلى السلطة بدون ممارسة درجات شتى من الشعبوية. لديه الكثير من العناصر اللازمة لممارسة الشعبوية، عناصر موجودة فى تنظيم حزبه وتنظيماته السرية وميليشياته المسلحة وفى عقيدة وحضارة الهندوسية الراسخة ثقافة وتدينا عبر خمسة آلاف سنة، وموجودة فى المشاعر الجاهزة للإثارة ضد المسلمين من أبناء شعبه.
• • •
من الأخطاء السائدة الاعتقاد أن كثيرا من أمراض السياسة الشائعة موطنها الأصلى عالم الجنوب. الشعبوية مثلا تعرفنا عليها مما وصل لنا من مقتطفات الجرائد الناطقة فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى لخطب بنيتو موسولينى وأدولف هتلر وجوزيف ستالين ومصطفى النحاس وفى أساليب التعامل والمخاطبة كما شاهدنا فى سنوات رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة وبوريس جونسون لحكومة المملكة المتحدة. كل هؤلاء وغيرهم كثيرون لجأوا إلى الشعبوية رغبة فى تجاوز البرلمانات وأدوات الإعلام الرسمى وطمعا فى توسيع قاعدة التأييد من قطاعات شعبية بعيدة عن تأثير ونفوذ الوسائل العادية. مودى مثل كثيرين غيره من السياسيين عاجزين عن الوفاء بما تعهدوا به بالطرق السياسية القانونية لنقص فى إمكاناتهم الشخصية أو لجشع فى طموحاتهم السياسية أو لإشباع حاجات لم تلب فى الصغر. لجأوا إلى ما هو كفيل بإضعاف مؤسسات الحكم لحساب صورته الشخصية وفلسفته فى إدارة شئون الدولة. لجأوا إلى أسلوب التخاطب المباشر مع الشعوب من فوق رءوس المؤسسات الوسيطة ودورها المهم فى حماية الشعوب من إغراءات الحكام وجبروتهم وفى الوقت نفسه حماية أنفسهم واستقرار الدولة ضد انفعالات الجماهير وردود فعلها للخطاب المباشر.
الشعبوية ليست أهم أمراض السياسة فى العصر الذى نعيش. هى بلا شك واحدة من الأهم. يشاركها فى الأهمية مرض العنصرية، والعنصرية فى حد ذاتها عنوان تصطف تحته عناوين أمراض أخرى كثيرة منها على سبيل المثال ممارسات التعالى أو عكسها على الإطلاق مثل ممارسات الدونية. أقرب هذه الممارسات الدونية ما عاصره بعض المعمرين من بيننا عن أساليب التعامل السياسى بين السياسيين فى الدول شبه المستقلة وممثلى الدول الغربية المهيمنة من ناحية وبين بعض السياسيين فى الدول الفقيرة والسياسيين فى الدول النفطية أو الميسورة ماديا من ناحية أخرى. ينعكس هذا النوع من الدونية على العلاقة الحقيقية والمتوترة غالبا التى تنشأ بين فقراء العشوائيات مثلا ورؤساء وموظفى المجالس المحلية فى دول عديدة فى الشمال كما فى الجنوب.
• • •
من الأمراض الشائعة فى أيامنا وكانت شائعة فى الماضى للأسباب نفسها أو لأسباب مختلفة شن السياسيين لحملات الغزو المسلح ضد دولة أخرى جارة أو بعيدة وجعل من البيت الأبيض مصدرا لتجارب ينفذها جماعة المحافظين الجدد وغلاة الصهاينة ضد دول صغيرة. تدخلت أمريكا فى عهد الرئيس بوش الصغير فى شئون العراق بالغزو المسلح بادعاء ثبت زيفه ومن رئيس أثبت قولا وفعلا ضعف قواه العقلية. أمريكا ربما صارت الدولة الأكثر استخداما للحرب فى علاقاتها الدولية. كان الغزو نمطا مألوفا فى عصر الاستعمار الغربى والسوفييتى وكان الظن أننا بنهاية الحرب العالمية الثانية انتقلنا إلى علاقات دولية لا تلجأ فيها الدول إلى أسلوب الغزو. لم ندرك، ولعلنا ما زلنا، لا ندرك أن النظام الدولى الذى رسمت خريطته ووضعت قواعده الولايات المتحدة بهدف المحافظة على السلم الدولى كان هو نفسه بقواعده المبرر الذى استخدمته أمريكا لغزو كوريا وفيتنام والعراق وسوريا وسمحت للناتو بغزو ليبيا وتسمح لإسرائيل باحتلال أراضٍ ورفض مبادئ السلام والأمم المتحدة.
من الأخطاء التى صارت شائعة تشكيل السياسيين فى بعض الدول لميليشيات عسكرية وقوات غير نظامية لحمايتهم وإنشاء أجهزة إعلامية فائقة التمويل هدفها تضخيم صورة وأعمال السياسيين فى دول العالم النامى إلى الحد الذى يدفع المعارضين المحرومين من حرية التنظيم والرأى لتصعيد وتنويع نشطهم فى مسالك غير قانونية أو تحت الأرض. من الأخطاء الشائعة أيضا انغماس الحكام فى مسألة الديون. المعروف أن أكثر من 90 دولة من الأفقر فى العالم تنفق ما متوسطه 16% من دخولها على خدمة الديون. نيجيريا مثلا تنفق 96% من حصيلة الضرائب على خدمة الدين وعلى حساب التعليم والصحة. هذا الخطأ ظل قائما منذ عصر الاستعمار عندما كان المستعمر يستدرج الملوك والسياسيين إلى فخ الديون ليسهل التحكم فى سياساتهم.
من أخطاء بعض السياسيين المعاصرين المتكررة استسلامهم للغرور رغم أن تاريخ أسلافهم حذرهم من العواقب الوخيمة لهذا الاستسلام. نهاية نابليون نموذجا ونهاية صدام نموذجا أبشع. أذكر فى هذا الصدد رواية الأستاذ هيكل عن استقبال السوريين واللبنانيين لعبدالناصر فى زيارته الأولى لدمشق كرئيس للجمهورية العربية المتحدة. بلغت حرارة اللقاء ذروتها، الذروة التى هزت أفئدة عبدالناصر ومرافقيه الواقفين على شرفة قصر الضيافة من سوريين ومصريين ودفعت هيكل لأن يهمس للرئيس بأن يحتاط ضد الغرور قائلا له «يا ريس.. ماتنساس انك بشر».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي