«روح يا مخرج ربنا مايخلى لك افلام تانى»..
أتخيل نفسى فى العام 1955، بعد أن تورطت فى مشاهدة هذا الفيلم، وان اكتب مقالا يبدأ بهذه العبارة، أو يكون هذا هو المعنى الاساسى للمقال، فلو فعلت ذلك فإن امنيتى سوف تتحقق بقوة باعتبار أن مخرج الفيلم اسماعيل حسن سوف يتوقف عن الاخراج ثلاثة عقود كاملة، كى يعود الينا مجددا فى زمن افلام لمقاولات ليمطر علينا سيلا من افلام مصنوعة بالتأكيد مع صناديق النفايات، أفلام سهلة الإعداد مكوناتها من قصصات ممزقة، قليلة التكاليف، وتخلو من النجوم، باعتبارهم يحرصون على الانتقاء حتى يظلوا فى قوائم الاعجاب، أفلام قام المخرج تقريبا بانتاجها، وكتابة سيناريوهاتها، ودفع به
الى دور العرض، لا تهم الايرادات، فمن الواضح أن أبطال الفيلم الذين يحصلون على ادوار مهمة دفعوا إلى المنتج، أو تنازلوا عن أجورهم من أجل الحصول على دور فى السينما، وفى العام 1955، كانت هناك افلام كثيرة من هذه النوعية لعل أشهرها هو «فى صحتك».
فيلم اليوم من بطولة راقصة اسمها زوزو محمد تحصل هى والمطرب عبدالرحمن المصرى على البطولة للمرة الأولى، وذلك قبل أن تعود زوزو فقط إلى الرقص لمرات قليلة، أما هو فذهب وراء جدران النسيان للأبد، وهناك أدوار صغيرة او رئيسية لممثلين عددهم محدود جدا، مثل وداد حمدى، وعبدالنبى محمد، وعلى عبدالعال، وللعديد من الأشخاص الذين نراهم على الشاشة للمرة الأولى والأخيرة، والنسخة التى تعرض على اليوتيوب مدة عرضها 53 دقيقة.
زوزو محمد المولودة عام 1924، تحصل على البطولة المطلقة للمرة الأولى والأخيرة حيث لم تقترب عد ذلك من الاستوديوهات، وقد رأيناها راقصة تقوم بأدوار المرأة التى توقع الرجال فى أفلام منها: «اليتيمتين» و«ظلمت روحى»، أما المطرب عبدالرحمن المصرى فهو أيضا ملحن وقد شارك فى تلحين اغنيات الفيلم، وهو أشبه بزميله محمد مرعى الذى كانت له بطولة فيلم «أول غرام» امام سامية جمال فى العام نفسه اخراج نيازى مصطفى، واختفى، يبدو انها سنة لاعطاء البطولات إلى قوم من الباهتين الذين لم يتركوا فينا أثرا لا فى التمثيل أو الغناء، وكله بفلوسه وموهبته المحدودة.
نعم نحن أمام مجموعة من بقايا الأقمشة وقصاصتها يتم ترقيعها لتتحول إلى ثوب مرتَّق، أو مرقع مثلما نقول، بلغة السينما، يمكن أن نطلق عليها بلغة مهذبة «اسكتشات» خذ مثالا لذلك فالفيلم يبدأ بالخواجة بيجو وهو شاب بالغ الحيوية يعمل فى محطة بنزين ويرتكب الكثير من الحماقات المفتعلة، فى تلك الفترة كان أبطال فرقة ساعة لقلبك الاذاعية قد تهافتت السينما عليهم بقوة، وبدا فؤاد راتب هنا وقد حصل على أكبر فرصة كى يقلد تشارلى شابلن تارة أو يلعب دور الشاب الشعبى الغبى، لم يكن فى حاجة إلى أبى لمعة، ولكنه يتكلم بلهجة الخواجة التى لازمته طوال حياته، ولم يتخل عنها، وكان يراها الوجه الحقيقى له، مثلما سمعته يردد يوما فى جلسة عائلية، هذا الاسكتش يبدو فيه المضحك ثقيل الظل. يكرر نفسه، وباعتبار أننا امام اسكتش، دون أن ندري، فما إن انتهى دور بيجو الصامت غالبا، حتى بدأت القصة الأساسية دون أى اشارة لمعنى ما رأيناه فى البداية.
ذكرت أن إسماعيل حسن انتظر ثلاثة عقود ليعود بعدها إلى اخراج الأفلام التافهة، باعتبار أن التجارب الأولى قد يغتفر لها، لأنها محاولات لدخول المجال، مثل الفيلم الأول ليوسف شاهين «بابا أمين» عام 1950، لكن بالتأكيد أن القزم فى كل الأحوال يظل بالقامة نفسها مهما حاول ان يكون أطول قامة، ولاشك أن المخرج تعامل دوما مع السينما على أنها لعبة للحواة، وأن من بعض الحواة من يأخذ المهنة بجدية، ولعلى لم استخدم تعبير «سبوبة» لأنه فى أغلب الأحيان يكون أكثر براءة من تفاهة مجموع ما قدمه المخرج فى سنوات عمله، وعليه فإنه من أسسوا لصناعة أفلام المقاولات قبل ازدهارها فى سنوات شرائط الفيديو.
لا أدعى أن ما كتبته اليوم نقدا أو محاولة للتعرف على الفيلم، فالأفلام الجيدة هى التى تولد
الكتابة الجادة، ولاشك أن أمثال هذه الأفلام وصناعها أشبه بالداء فى جسم السينما الجميلة، فالمخرج لم يصنع لنا مشهدا نتذكره، وبالتالى فلا الرقص بجذاب، والأغانى لم نستمتع بالاستماع اليها، ولا الممثلين تمت ادارتهم كما ينبغى، وعلى المستوى الشخصى فكم أحب مشاهدة وداد حمدى، مهما كان العمل، إنها تشع بدون توجهات، ولكن وسط هذا العمل فإن من حولها أصابوا توهجها بالعتمة، كل ما يمكن فعله ان الفيلم محسوب على خريطتنا السينمائية المجهولة، ويجب فتح صندوقه ايا كانت محتوياته، لأنه دخل فى اطار افلام السينما التى لا نعرفها.