إذا ما عجزت الإيرادات العامة للدولة عن تلبية احتياجات الإنفاق العام، فإن تمويل العجز بالديون عادة ما يكون الحل الأقرب للمالية العامة، خاصة إذا كان مصدر الاستدانة محليا، لأن الحكومات تتصوّر دائما أنها لن تعجز عن سداد الدين المقوّم بالعملة المحلية مهما بلغ حجمه؛ ففى النهاية تمتلك الدولة سلطة طباعة البنكنوت، غير أن تكلفة الإفراط فى تلك الطباعة يتحملها الجميع فى هيئة ضغوط تضخمية.
ولأن المالية العامة تهتم بالأجل القصير، فمدار اهتمامها موازنة العام المالى الراهن، التى ما إن يتم اعتمادها من السلطة المختصة حتى تجد وزارة المالية نفسها بصدد إعداد مشروع موازنة العام التالى، ولكن بتخصيص جانب أكبر من الإيرادات لسداد خدمة الدين العام، الذى ينمو باستمرار دون توقّف، فيلتهم ما كان ينبغى تخصيصه للإنفاق على التعليم والرعاية الصحية والأجور ودعم محدودى الدخل فضلا عن الاستثمار العام. هكذا يمكن أن تلتهم فوائد الدين العام (ناهيك عن أقساطه) الجانب الأكبر من إيرادات الدولة، ليتحوّل العجز إلى مرض مزمن يصعب الفكاك منه إلا بالبحث خارج تلك الحلقة المفرغة.
أما الدين الخارجى المناسب لتمويل ذلك النوع من العجز المستدام فإنه عادة ما يأتى فى صورة أموال ساخنة، تتدفق من محافظ المستثمرين الباحثين عن أسعار فائدة (حقيقية) كبيرة، تدرها أذون وسندات خزانة تضمنها الدول. ولفظ حقيقى متى ورد فى سياق متغيرات الاقتصاد فإن المقصود منه هو تخليصه من التضخم، فالفائدة «الاسمية» إذا بلغت 18% وكان معدل التضخم السنوى 15% مثلا، فهذا يعنى أن الفائدة الحقيقية 3% فقط. ولأن معدلات التضخم تتجه نحو الانفلات على أثر الإفراط فى طباعة البنكنوت لسداد الدين المحلى، والوفاء بالتزامات الدولة تجاه الأجور والدعم وخلافه، فإن أسعار الفائدة الحقيقية على منتجات الدين (وأهمها السندات وأذون الخزانة) المقوّمة بالعملة المحلية، عادة ما تكون متواضعة وفى الغالب سالبة، الأمر الذى يجعل اجتذاب الأموال الساخنة قاصرا على أدوات الدين المقوّمة بالعملات الأجنبية، والتى يتعين على حكومات الدول النامية المعاناة فى تدبيرها، وأن يسددوا عنها أسعار فائدة أكبر من نظيرتها المطروحة فى الدول المتقدمة، لتعويض هامش المخاطر الإضافية التى يتعرّض لها المستثمر لدى إقراض تلك الحكومات المحتمل تعثّرها بدرجة أكبر نسبيا من حكومات الدول المتقدمة.
من أجل ذلك تحاول الحكومة المصرية، ممثلة فى وزارة المالية، المحافظة على ما يسمى (فائض أوّلى) فى الموازنة العامة. والمقصود بهذا الفائض هو ببساطة ما يتحقق من فرق بين الإيرادات والمصروفات العامة بعد استبعاد الفوائد المستحقة على الدين العام. ومدلول ذلك الفائض هو أن الحكومة تكون قادرة على سداد جانب من الديون القائمة، من حصيلة إيراداتها وقبل أن تتجه إلى إنشاء مديونية جديدة. لكن حجم ذلك الفائض يجب أن يكون كبيرا ومعنويا بما يكفى لسداد رصيد الديون المتراكمة، خاصة إذا تجاوزت خدمة الدين ثلث مصروفات الموازنة العامة، كما هى الحال فى مصر.
• • •
على المستوى الكلى، هناك مؤشرات عدة، بخلاف الفائض الأوّلى، تستعين بها الدولة لتقييم مخاطر الدين العام وخاصة الخارجى منه، من تلك المؤشرات: نسبة الدين العام (المحلى والخارجى) إلى الناتج المحلى الإجمالى. وفقا لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء فى مصر، فقد نجحت الحكومة فى خفض نسبة الدين العام (بشقيه المحلى والخارجى) من أعلى مستوى له (108%) من الناتج المحلى الإجمالى عام 2015/2016 إلى (87.5%) بنهاية العام المالى 2019/2020 بعد انتهاء تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى. ثم ارتفع الدين العام إلى (91.5%) فى العام المالى 2020/2021 متأثرا بجائحة كورونا، لينخفض تدريجيّا إلى (82.9%) كما هو مستهدف بنهاية العام المالى 2022/2023، وكان من المستهدف تخفيضه إلى نسبة (68%) لهذا العام... وهنا يجب الانتباه إلى أثر المَقام الذى يتم نسبة حجم الدين إليه لحساب تلك المعدلات، وهو الناتج المحلى الإجمالى، لأن أى مغالاة فى تقديره (وهو من الأمور الشائعة اقتصاديا) تنعكس على هذا المؤشر لتعطى انطباعا بتحسّن وضع الدين العام، بينما معدلات نمو الدين نفسه لا تؤخذ فى الاعتبار كمؤشر هام.
هناك أيضا مؤشر هيكل محفظة الدين، حيث تستهدف استراتيجية إدارة الدين فى مصر زيادة تدريجية فى أحجام سندات الخزانة وآجالها على حساب إصدارات أذونات الخزانة (ذات الأجل القصير بالتعريف)، عبر الطروحات المنتظمة وإعادة فتح السندات لزيادة أجل متوسط الدين الحكومى، لتوحيد منحنى العائد لأوراق الدين الحكومى، وخفض الديون التى يستحق أجلها سنويّا. وهناك مؤشر متوسط فترة استحقاق الدين العام، وتركز اﻻستراتيجية العامة لإدارة الدين على إطالة أجله، حيث ارتفع متوسط فترة استحقاق الدين إلى نحو (3.2) سنوات فى 2019/2020 مقارنة بـ(1.3) سنة فى نهاية العام المالى 2012/ 2013.
وعلى مستوى القطاع العائلى، كشفت نشرة للبنك المركزى المصرى، عن ارتفاع القروض الممنوحة للقطاع العائلى بنحو 25.22%، لتسجل 764.2 مليار جنيه بنهاية ديسمبر 2022، مقابل 610.3 مليار جنيه بنهاية ديسمبر 2021، بزيادة قدرها 153.9 مليار جنيه.. غير أن زيادة الاعتماد على الدين للوفاء باحتياجات الاستهلاك الأساسية للأسر من الأغذية والمشروبات والأجهزة الكهربائية.. تعد مؤشرا خطيرا على زيادة احتمالات التعثّر نظرا لطبيعة هذا النوع من الديون، وعدم ارتكازه على غطاء مناسب أو ضمانات كافية. وقد كشفت الهيئة العامة للرقابة المالية عن نمو حجم نشاط التمويل الاستهلاكى بنسبة 81.5% خلال الفترة من يناير ــ أكتوبر 2022 على أساس سنوى. وأوضحت الهيئة أن قيمة التمويل الاستهلاكى الممنوح خلال تلك الفترة قد بلغ نحو 23.6 مليار جنيه مقابل 13 مليار جنيه خلال ذات الفترة من العام 2021، بنمو بلغ 81,5%، هذا طبعا بخلاف ما يتم تمويله من خلال بطاقات الائتمان المصرفية، وبدائل الاقتراض الأخرى من خارج الجهاز المصرفى. ذلك النمو المقلق فى حجم التمويل الاستهلاكى فى مصر، مع زيادة معدلات الفقر على أثر التحولات الدولية والمحلية، وارتفاع معدلات التضخم الأساسى إلى مستوى يزيد قليلا على 40% لا يؤدى إلا إلى زيادة عدد الغارمين والغارمات بشكل منتظم، سبق أن حذّرت منه فى مقالات سابقة. لن نتطرق هنا إلى مديونية قطاع الأعمال لأنها تخصص فى الغالب لتمويل الاستثمار، وهو أمر مرغوب اقتصاديا.
• • •
الديون إذن هى دائرة مفرغة، سواء بالنسبة للدولة أو الأسرة والفرد، وهى تنمو بشكل مستمر مع نمو العجز فى الموازنة العامة أو ميزانية الأسرة. تتسّع تلك الدائرة بفعل التضخم الذى يغذيها دون توقّف، فتتجه البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة لاحتواء ذلك التضخم، فترتفع تكلفة الديون بشكل مضطرد، وتزداد قبضتها على المدينين، الذين لا يجدون منها مخرجا إلا بمزيد من الاستدانة وبتكلفة متزايدة. وإذ انتهى عصر الأموال الرخيصة ولفترة طويلة من الزمن، فقد أصبحت الديون سلاح السيطرة الجديد، الذى تسلطه الدول الدائنة على دول العجز المزمن، مع حرص الدائنين على بخس أسعار السلع والخدمات التى ينتجها الجنوب الفقير، وفى مقدمتها المواد الخام والنفط ومشتقاته والمحاصيل الزراعية.
الحل المستدام للخروج من قبضة الديون يجب أن يسير فى مسارات ثلاثة متوازية: أولها يتمثل فى إسقاط جانب من الديون القائمة، تماما كما قام مشروع مارشال فى أوروبا على إسقاط جانب كبير من ديون عدد من الدول وفى مقدمتها ألمانيا الغربية، من خلال اتفاقية لندن للديون عام 1953. ومن المفارقات المؤسفة أن ألمانيا الاتحادية اليوم (الوريث الحقيقى لألمانيا الغربية) هى أول البلاد الرافضة لإسقاط الديون عن الدول المعرّضة لمخاطر التعثّر والإفلاس! المسار الثانى يتمثّل فى إنشاء بورصات سلعية ومنظمات متخصصة للدول النامية، يتم خلالها التسعير العادل للسلع والخدمات، التى تتمتع تلك الدول بمزايا نسبية وتنافسية فى إنتاجها وتصديرها، مع توفير ذات السلع والخدمات بأسعار مناسبة لمواطنى تلك الدول. هذا من شأنه تحسين شروط التجارة لصالح الجنوب الأفقر نسبيا، مع زيادة إيرادات الدول ذات الفائض السلعى والعجز التكنولوجى، لتخفيض اعتمادها على الديون الخارجية فى تمويل احتياجات التنمية.
أما المسار الثالث المطلوب للخروج من دائرة الديون المتصلة، فيتمثل فى تغيير أنماط الاستهلاك بالدول النامية للتحوّل إلى مصادر القيمة ذات الوفرة بتلك الدول، مع تقليل الاعتماد على الاستيراد والإحلال محل الواردات بانتظام، مع التطور التدريجى فى المقومات الصناعية والتقنية. غير أن النجاح فى مرحلة التحوّل الصعبة بالدول الفقيرة والنامية، مرهون بالتعاون الاقتصادى والتكامل فيما بينها بدرجات متفاوتة، تسمح بالخروج من قبضة الديون التى تنمو باستمرار بسبب الإفراط فى الاعتماد على الاستيراد، ومن ثم العجز المزمن فى موازين تجارتها.
أما المستهلك الفرد، فيتعين عليه التوقف عن تمويل استهلاكه بالدين حتى ولو بدون فوائد، وألا تزيد درجة انكشافه لأى نوع من الديون عن المستوى الذى يمكن سداده من دخله المتاح والمضمون (نسبيا). ويجب على الجهات الرقابية والتنظيمية، أن تضع ضوابط إدارة المخاطر المنظمة لتلك الأنشطة، مع الحرص على الحد من معدلات نموّها، حتى يعتاد المجتمع هذا النوع من النشاط التمويلى، وتعتاد الجهات المنظمة والرقابية على مخاطره والتعامل مع أزماته. أما تفضيلى الشخصى فيتمثل فى التخلص من التمويل الاستهلاكى إلى الأبد.