سعيا وراء موضوع حظى باهتمام خارجى أو داخلى ويستحق من جانبى الكتابة فيه رحت أقلب صفحات مصادرى، الإلكترونية منها والورقية. أعرف أن كثيرين ممن يعيشون حولى تخلوا منذ وقت غير قصير عن متابعة الأخبار. قليلون تدفعهم غرائز الفضول والتعاطف والسعى وراء الرزق أو زيادته وتجديد موارده هم الذين واظبوا على المتابعة، وإن بتكلفة باهظة فى الوقت والمال وصحة العيون وسلامة الأعصاب.
خبران تصدرا أنباء هذا الصباح. جاء من أوكرانيا ما ينبئ بأن رئيس جمهورية أوكرانيا، وهو رجل أعمال اشتهر بصنع الحلوى وتجارتها، اشتهر أيضا بأنه لا يحب روسيا ويحب أوروبا الغربية، أصدر بسرعة ملفتة وبدون مناقشة أو مشاركة شعبه عددا من القوانين، تقضى جميعها بتجريم كل شخص يثبت أنه يحتفظ بذكريات عن الماضى تختلف عن الذكريات الرسمية التى تقرر الحكومة الاحتفاظ بها فى ذاكرتها. الهدف من هذه القوانين، كما أعلنت أجهزة الدولة، هو «صنع ذاكرة تاريخية (صحيحة) وملزمة للمواطنين جميعا».
•••
الخبر الثانى كان عن المملكة السعودية معلما أن عملا انتحاريا فى أحد المساجد بمنطقة شرق البلاد أدى إلى مصرع عدد غير قليل من المواطنين. وما هى إلا دقائق معدودة إلا وكان تنظيم الخلافة الإسلامية يؤكد الشكوك بأن أعضاء فيه هم الذين خططوا ونفذوا هذه «المعركة» المنصورة فى حرب، مثلها فى التاريخ لم يحقق نصرا أو عزز مكانة أو نشر عدلا أو أسعد أمة.
•••
لحظات قليلة حاولت خلالها اتخاذ القرار، أيهما يستحق الكتابة فيه. الموضوعان مثل غيرهما من الموضوعات الصباحية المبكرة تأتى منزوعة المعلومات، ولكن ما هى إلا لحظات وكان الأثير يحمل من المعلومات ما لا طاقة لإعلامى من ذوى الخبرات الورقية على متابعتها وتحليلها وتقديمها للقارئ موجزة ومقروءة. فجأة وجدت نفسى غارقا حتى أذنى فى وقائع تحاول التأكيد على حق النخب الحاكمة فى «تنقية» ذاكرة المواطن من «شوائب» خلفتها نخب حاكمة سابقة. التنقية فى هذه الحالة، لا تختلف كثيرا عن «التنقية» العنصرية التى مارستها حكومات كثيرة ضد أقليات تعيش فى بلادها. إذ إنهم فى أوكرانيا مثلا عندما قرروا بنص القانون التذكير بأمجاد جيش المقاومة الذى حارب النازيين خلال احتلالهم أوكرانيا، تجاهلوا أن يتضمن القانون التذكير بالمذابح التى ارتكبها هذا الجيش ضد الأقليات التى عاشت فى أوكرانيا فى ذلك الوقت، ومن بينها شعب التتار.
وأظن أنه صار فى حكم المستحيل، كما تبين من متابعتى حلقات مسلسل المعلومات فى ذلك الصباح المبكر، ألا أتوقع عبارة أو أخرى تحكى حكاية المحرقة النازية لليهود. تحدثت المعلومات عن مذابح جرت ضد ملايين الأفراد فى بولنده وأقاليم مر عليها الألمان خلال زحفهم نحو روسيا وعودتهم منها، أو مرت عليها الجيوش السوفييتية المنهكة، ومع ذلك ظلت جميعها معلومات ثانوية لا ترقى بأى حال إلى مصاف المكانة التى احتلتها المحرقة النازية، باعتبارها من الذكريات التى يجب أن تكون ثابتة، مهما تعددت النخب الحاكمة واختلفت رؤاها ومهما أصدرت من «قوانين لتنقية الذكريات».
لاحظت مثلا أن مذبحة الأرمن والمسيحيين السوريين على أيدى مؤسسات أمنية تركية فى الحرب العالمية الأولى لم يأت ذكرها، مع أن الأرمن وعديد شعوب أوروبا وأمريكا احتفلت قبل أيام معدودة بذكرى مرور مائة عام على ارتكابها .جدير بالملاحظة أيضا أن إصدار القرارات الأوكرانية «المستعجلة» صادف احتفالات روسيا حكومة وشعبا بالذكرى السبعين لانتصار الجيش الأحمر على الجيش النازى وتحقيق النصر فى الحرب العالمية الثانية. هنا أيضا وقع على عاتق الرئيس فلاديمير بوتين ونظامه مسئولية «تنقية» الذاكرة الروسية، من أى شوائب تكون قد شوهت هذه الذاكرة خلال سنوات بريستروبيكا وعهدى جورباتشوف ويلتسين.
•••
ما أقرب «تنقية» الذاكرة والذكريات من تنقية البشر. اكتشفت مدى قصر المسافة بين التنقيتين عندما انتقلت لمتابعة الخبر الثانى لهذا الصباح المبكر. لقد جرى فى ظهيرة يوم الجمعة ذبح عشرات المصلين الآمنين داخل مسجد بغير مبرر سوى الطاعة العمياء لأيديولوجية تعتمد التنقية البشرية أداة وهدفا. هؤلاء الذين خططوا ونفذوا هم مسلمون قرروا أن مسلمين آخرين يستحقون الإبادة ليبقى هذا الفرع من دينهم «نقيا» لا تشوبه «ذكريات» أخرى.
كنا فى أزمنة سابقة نشهد «تنقيات» بأساليب مختلفة، مثل التمييز فى الوظائف والتعليم والمناصب والتعيين فى المؤسسات السيادية والأمنية، أو فى بعض السلوكيات الشعبية المتوارثة عن جهل وتخلف، وكان الأمل دائما فى أن الارتفاع بمستويات التعليم والمعيشة سوف يقضى على هذه السلوكيات. للأسف الشديد لم يرتفع مستوى التعليم أو مستوى المعيشة. والآن تلجأ البيروقراطيات الصغيرة وعناصر الإفساد وقوى الفتنة إلى أسوأ الأساليب وأخطرها، مثل التطهير العرقى ويمارسه المتحضرون والمتخلفون سواء بسواء فى عالم اليوم.
•••
هل بيننا من يشك للحظة واحدة أن أحداث مدينة بالتيمور وهى التى تتكرر بمعدلات أسرع فى أماكن أخرى من الولايات المتحدة، هى نتيجة مباشرة، وإن ربما متأخرة، لعملية» تنقية « جربها الأمريكيون لقرون عديدة؟ ثم أليس ما يحدث بتكرار أيضا مخيف فى جنوب أفريقيا نتيجة مباشرة، لسنوات استيطان أوروبى عديدة ولحالة نموذجية فى نظام التفرقة العنصرية؟
•••
انتشر العنف فى كل مكان كأداة مثلى للتعبير عن احتجاج ضد مختلف أنواع التنقية، وفى صدارتها التنقية الاجتماعية والطبقية والسياسية. كان غريبا على أسماعنا خبر عن انتفاضة يمارسها سكان أصليون فى بوليفيا ضد رئيسهم، وهو أصلى، مثلهم، ولعله الوحيد من حكام أمريكا الجنوبية الذى جاء إلى الحكم لنقاء أصله. يحتجون لنقص فى العدالة الاجتماعية، وهناك عنف فى المكسيك مستمر ومتواصل ومتصاعد طرفاه فساد فى الحكم وفساد فى الشارع.. جهات فاسدة فى قوى الأمن تحارب جهات فاسدة فى الأقاليم الهامشية والعشوائيات والحكومات المحلية، بالأمس مات فى الاشتباكات ٤٣ شخصا. وفى بالتيمور الأمريكية ازداد عدد الجرائم المعتادة من معدل ٧١ إلى ١٠٠ بسبب التوتر الاجتماعى والعنصرى وتدهور العلاقة بين الأمن والمواطنين.
ومات فى قرية جاريسا الكينية ٢٥ شخصا نتيجة هجوم شنته جماعة الشباب الصومالية انتقاما لتدخل كينيا فى الصراع داخل الصومال. وفى كولومبيا تجددت بعد هدنة استمرت ستة شهور الحرب بين الثوار والحكومة، بعد أن هاجمت القوات الحكومية قواعد الثوار فقتلت منهم ٢٦ مقاتلا. وفى بيرو ثار عمال المناجم فقتلت قوات الأمن أربعة منهم لتشتعل موجة جديدة من الاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية. وفى بوجومبورا هاج المواطنون لأن الرئيس يريد ولاية ثالثة فى الحكم بزعم الحرص على حماية بوروندى من تنظيم داعش!.
وفى شمال باكستان كانت حصيلة يوم الأمس من ضحايا الطائرات العسكرية الأمريكية والباكستانية ثلاثة عشر قتيلا من المدنيين. وفى مالى استؤنف القتال بين القوات الفرنسية وقوات المنظمات الإسلامية. وفى جنوب السودان وقع ٨ قتلى نتيجة هجوم على قوات حفظ السلام الإفريقية. وفى سانتياجو عاصمة شيلى تجددت مظاهرات العمال المطالبين بتحسين ظروفهم الاجتماعية حسب وعد الرئيسة باشيليت ذات الخلفية الاشتراكية. وفى جواتيمالا مازال القتل مستمرا منذ عقد الخمسينيات.
•••
خبران كان ظنى أنهما بدون رابط يربطهما. ولكن عند الاقتراب منهما وجدتهما متقاربين. ينهل كل منهما من نبع واحد، هو نبع الاستبداد بفكرة، ونبع الاقتناع بأن ما عدا هذه الفكرة الواحدة من أفكار ورؤى وذكريات يجب تنقيته قبل طرحه على الناس أو توريثه لأجيال قادمة.