فى كتابه «حرب اللغات والسياسات اللغوية»، يوضح لويس جان كالفى، كيف صارت اللغة بما هى رموز ثقافية ووعاء فكرى، إلى إحدى أدوات الصراع والهيمنة فيما نسميه عصر العولمة. فمع تحول العالم إلى «قرية كونية صغيرة»، ازداد الاحتكاك اللغوى والثقافى بين الشعوب، ومع انهيار الحدود الجغرافية التقليدية أمام سيل المعلومات وطرق التواصل السريعة، زادت توقعات المواجهة المباشرة بين الأنساق الثقافية واللغوية لتتحول إلى «حرب لغات» طاحنة، تسعى كل لغة إلى اجتثاث اللغة المنافسة لها، تمهيدا لما بتنا نسميه «استعمارا ثقافيا»...
ما دعانا للخوض فى هذا الموضوع فى هذا المقال، هو الجدل الدائر فى الأراضى الفلسطينية، حول ما يعتبر قانونا أساسا فى دولة الاحتلال، والذى يهدف إلى تجريد اللغة العربية من صفة «لغة رسمية ثانية». والحقيقة أن دويلة الاحتلال تثبت من خلال هذا القانون الجديد أنه كيان عنصرى بامتياز، وأنه يقول القول ويفعل نقيضه، فهو ليس أفضل ديمقراطية فى الشرق الأوسط، ولها كيان يحترم الحقوق الدنيا من حقوق الإنسان الكونية.
فمنذ إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، عن قراره بنقل السفارة إلى القدس واعترافه بالقدس عاصمة للاحتلال، والمشرعون اليهود، يصدرون القوانين الواحد تلو الآخر، لتهويد القدس بالكامل، وإخراجها من معادلة الصراع والتفاوض، وهم يتحدثون عن القدس الموحدة وليس عن القدس الغربية فقط، بمعنى أن حديث الطرف الفلسطينى والأطراف العربية التى «تتفاوض سرا» على صفقة القرن، هو كمن يحرث فى البحر. وقد جاء «قانون القومية» الذى صوت عليه الكنيست منذ أيام قليلة، ليستكمل الترسانة القانونية، التى تجعل من القدس يهودية بالكامل وهى ملك للشعب اليهودى دون غيره من الأعراق أو من أتباع الديانات الأخرى. قد يفسر البعض هذه الخطورة بأنها خطورة عنصرية تمييزية، وهذا لا اختلاف عليه، لكن من يقدر على محاسبة «إسرائيل» التى تمارس هذه السياسات منذ العام 1948، أو حتى قبله. يقول المحامى حسن جبارين عن قانون القومية «القانون يؤكد ممارسات قائمة منذ العام 1948، خاصة تهويد فلسطين بجميع المجالات، من الأرض والمسكن واللغة والثقافة وتسمية الأمكنة، إضافة إلى منع حق العودة وترسيخ فلسطين على أنها «أرض يهودية»، والعديد من البنود فى «قانون أساس القومية» هى المبادئ ذاتها التى جاءت فى وثيقة الإعلان عن تأسيس «إسرائيل» فى مايو 1948.
بعد قانون ضم القدس وأجزاء من الضفة الغربية، وبعد قوانين لاجتثاث سكان البوادى والأرياف الفلسطينية، وآخرها قضية الخان الأحمر، وبعد تقديم قوانين للمصادقة عليها بمنع الآذان وإعدام الأسرى، يأتى «قانون القومية» ليعدم ما تبقى من الهوية الفلسطينية الموجودة فى القدس وداخل فلسطين 48. ولعل الأخطر فى هذا القانون هو أنه يسعى إلى اجتثاث الفلسطينيين من هويتهم الأصلية، وذلك بضرب مكانة لغتهم فى دولة الاحتلال، باعتبار أن اللغة العربية، ظلت صامدة فى وجه كل صنوف التهويد، وظلت حاملة للوعى القومى والدينى للشعب الأعزل. فهى سلاحه أمام غطرسة الكيان المدجج بكل أنواع الأسلحة. ظلت اللغة العربية هى سلاح المقاومين الأول. فهى وسيلتهم للتعبير أمام الرأى العام الدولى، وهى وسليتهم لتوريث الدين والثقافة والعادات والتقاليد. ويدرك الاحتلال أن «رصاص الكلمة» أقوى بكثير من رصاص بنادقه، لذلك كان عليه أن يوجه بوصلة حربه على الشعب الفلسطينى نحو لغته الأم. فالقضاء عليها سيعنى القضاء على هوية تاريخية وعلى رمزية «القدس عربية».
إن الحرب على اللغة العربية، هى وسيلة استعمارية وقع تجريبها سابقا، عندما حرم الاستعمار الفرنسى تدريس اللغة العربية فى الجزائر، إبان فترته الكولونيالية. ولكن النتائج كانت عكسية، فهذه لغة القرآن التى صهرت شعوبا وثقافات، وهى اللغة التى أضافت للحضارة الإنسانية بما قدمته من فنون وإبداعات وعلوم. ورب ضارة نافعة كما يقال، ذلك أن قانون التهويد الجديد، سيفضح الاحتلال الذى كان قد أعلن انسحابه من اليونسكو، على خلفية ما يعتبره نصرة لفلسطين وعداء ل«إسرائيل». والواضح أن اليونسكو كما مجلس حقوق الإنسان كما الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا تجانب الصواب عندما تصف هذا الاحتلال بأنه نظام فصل عنصرى.
الخليج ــ الإمارات
كمال بالهادى