اضطرابات بريطانيا.. وتعثر العولمة - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 4:59 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اضطرابات بريطانيا.. وتعثر العولمة

نشر فى : الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 6:40 م

  فى يوم 29 يوليو الماضى اهتزت بريطانيا على إثر جريمة بشعة قام بها صبى فى السابعة عشر من عمره، إذ اقتحم مقر مدرسة للرقص بالقرب من مدينة ليفربول حاملا سكين طعن بها مجموعة من الحضور، فقتل ثلاث طفلات بين سن السادسة والتاسعة وإصابة ثمانية أطفال آخرين فضلا عن اثنين من البالغين. تم القبض على الجانى وهو بريطانى يقيم فى مقاطعة ويلز مولود فى بريطانيا من أصول رواندية. انتشرت شائعات بأن الجانى مسلم ورغم عدم حقيقة ذلك فإن تظاهرات غاضبة عمت المدينة وهاجمت المسلمين وبيوتهم ومحلاتهم وأحرقت مسجد المدينة.

لم تكن هذه هى المرة الأولى لتفجر أعمال العنف ضد المغتربين والمسلمين فى بريطانيا فقد سبقت حوادث عديدة، كما وقعت حوادث مشابهة فى عنفها فى فرنسا، حيث استُهدف المهاجرون من شمال إفريقيا وجلهم من المسلمين، وأيضًا فى ألمانيا والعديد من الدول الأوروبية، ووقعت أشد الجرائم دموية فى النرويج فى عام 2011 حين أطلق رجل من النازيين الجدد النار من سلاحه الآلى على مجموعة من اللاجئين فى معسكر ترفيهى أقامته لهم الدولة فقتل 77 وأصاب 319 بجراح.

• • •

لعل هذه الحوادث الدامية ضد المهاجرين والمسلمين تؤكد نهاية الوهم الذى انطلق من الولايات المتحدة باسم العولمة، وتؤكد أن الفيروس العنصرى الذى سيطر على أوروبا فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى وبلغ ذروته فى فترة الحكم النازى الهتلرى فى ألمانيا ما زال كامنًا فى سريره ولاوعى الشعوب الأوروبية تغذيه وتحركه منظمات النازيين الجدد التى ما زالت تعمل فى أوروبا مثل منظمة جبهة الدفاع الإنجليزية English Defence League، وتركها الإعلام المفتوح الذى أذاع تصريحات مهيجة وغير مسئولة لمرشح رئاسة الولايات المتحدة ورئيسها السابق دونالد ترامب الذى وصف المهاجرين بأنهم مجرمون وخريجو المصحات العقلية، فضلًا عن دور وسائل التواصل الاجتماعى التى نقلت تصريحات إلون ماسك البليونير الأمريكى الشهير وصاحب منصة إكس X الذى صرح بحتمية الحرب الأهلية فى بريطانيا!

ظهر مصطلح العولمة فى عام 1988 على يد البروفيسور ثيودور ليفيت، الأستاذ فى جامعة هارفارد، فى مقال بعنوان the  globalization of markets.  نشر فى مجلة Harvard Business Review يبشر فيه بسقوط حواجز التفضيلات والأنماط الاستهلاكية الوطنية والإقليمية، ويستطرد البروفيسور ليقول إن تغيير الأنماط السلوكية وتطور التكنولوجيا يتيح للشركات أن تبيع نفس المنتجات حول العالم. ويلتقط الصحفى الشهير، الحائز على جائزة البوليتزر ثلاث مرات، توماس فريدمان الخيط لينشر كتابه (the world is flat: a brief history of the 21  century) فى عام 2005 ليصف العولمة بأنها عملية اندماج الأسواق والدول والتكنولوجيا، وبنى مقولته عن الأرض المسطحة بتشبيه العالم بأرض مر عليها بلدوزر ضخم سوى معالمها لتكون ملعبًا مستويًا ومبسطًا يلعب ويتنافس عليه أصحاب الصناعة والتجارة ليفوز منهم الأفضل. رحب حسنو النية وبعض الذين سيطرت على عقولهم النظريات التى يطرحها العرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، حيث تلقى العديد من النخبة تعلمهم بفكرة العولمة، ورأوا فيها فرصة للاستفادة من فتح الحدود وإزالة القيود وإتاحة لهم الفرص للاستفادة بما لدى الولايات المتحدة من إمكانات وفتح الحدود لمن يرد دخولها.

لكن الحقيقة المره والخديعة الكبرى تكشفت مع الوقت، بنت الولايات المتحدة جدارا على حدودها مع المكسيك وقبضت على من يجتاز الحدود وعزلت الأطفال عن ذويهم ووضعهم فى أقفاص، وعندما شعرت الولايات المتحدة بمنافسة حقيقية من الصين فى المجال التقنى والاقتصاد والسيطرة على الأسواق فرضت عليها حربًا تجارية وحصارًا شديدًا. الولايات المتحدة التى تدعى أنها ترفع راية الـLaissez Faire  أي عدم تدخل الدولة فى الاقتصاد والتجارة. أمريكا التى شنت هجوما شديدا على المقاطعة العربية لإسرائيل بدعوى أن الاقتصاد لا علاقة له بالسياسة ولم تمنعها هذه الفتوى من فرض مقاطعة وحصار خانق على كوبا والسودان وروسيا والصين وكل من اختلف مع سياساتها، ولم يمنعها من شن حملة لمنع مشاركة روسيا فى الألعاب الأولمبية رغم ترحبيها بمشاركة إسرائيل.

• • •

يغفل من يروج للعولمة أنها طريق له اتجاهان، لقد غزت مطاعم الوجبات السريعة من بيتزا وهامبورجر بلادنا كذلك المشروبات الغازية، ولعل هذا ما أفصح ليفيت عنه عن غرض العولمة فى تغيير الأنماط السلوكية وفى قول آخر مسخ الإنسان فى روبوت من تصميم القوى المسيطرة على الإنتاج يحتفظون بكتالوجه ويحركونه بريموت كونترول يملكون أزراره يتحكمون فى رغباته وطلباته ويحولونه إلى كائن استهلاكى لا يشبع ويتطلع دائمًا إلى المزيد؛ إلا أن الخطة تعثرت بسبب ما يكمن فى العقلية الغربية من شوفينية تقولب الإنسان فى صورة أوروبية لا تقبل شكلًا غيره. وظهرت العنصرية فى شكلها الفج فرغم حركة حقوق الإنسان التى حققت للأمريكيين السود حقوقا واضحة إلا أن اللاوعى جعل نجمًا كبيرًا، مثل مايكل جاكسون يسعى إلى تغيير لونه وملامحه ليصبح مسخا مشوها، والشوفينية المتأصلة جعلت الأوروبيين يرفضون الآخر وعاداته وتقاليده وقيمه، فأصبح حجاب المرأة المسلمة معولا يهدم الحضارة الأوروبية، وصار تعدد الزوجات أمرًا مرفوضًا يعاقب بالسجن. وفى نفس الوقت، يضغطون لتكريس زواج المثليين وفرض الشذوذ فى أوروبا، رحبوا بالأتراك ليعيدوا بناء ألمانيا بعد الحرب، وفى فرنسا حلوا الأفارقة الذين حاربوا مع جيشها فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفى بريطانيا قبلوا الهنود الذين جنّدتهم فى جيشها الإمبريالى، وكان لهم الفضل فى انتصارهم فى الحرب العالمية الأولى وانتصارهم فى الشرق الأوسط واحتلالهم العراق وفلسطين وبعد أن استنفذوا الفرص منهم وبعد أن عاشوا فى أوروبا أجيالا ولدوا وولد آباؤهم فيها يتعرضون للاضطهاد والتمييز.

ورغم اختصاص الإسلام بالعداوة فإنه من الواضح أن هناك نزعة واضحة ضد الدين -بشكل عام- تارة بمحاولة مسخه بطرح فكرة إذابة الأديان فى بعضها فى الطرح الفاجر المسمى بالإبراهيمية، وفى نفس الوقت تزكية الفجور والشذوذ.

•  •  •

أدت الأحداث الأخيرة فى أوروبا وأمريكا والغرب إلى إجهاض فكرة العولمة وظهور التناقضات الواضحة فى الأطروحات الغربية، وأن الغرض منها هو خلق الإنسان المجرد من المبادئ والقيم الذى همه الأوحد فى الحياة هو الاستهلاك لخدمة المصالح التجارية لا يكبح شهواته دينيًا أو وطنية أو مبادئ أو قيمًا. ولو راجعنا التاريخ لوجدنا أن هذا هو الهدف الذى سعت إلى تكريسه بروتوكولات حكماء صهيون التى كرست الصهيونية العالمية والإمبريالية الدولية جهًدا هائلًا لإقناعنا بزيفها بعد أن فضحتها الثورة البلشيفية عند قيامها سنة 1917.

 

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات