منذ الغزو الأمريكى للعراق عام 2003، بات شائعا تشبيه سياسات الولايات المتحدة فى المنطقة العربية بفتح «صندوق باندورا»، لكن الأساطير اليونانية القديمة لم تتحدث عن صندوق بل عن «جرة». وباندورا فى هذه الأساطير كانت أول أنثى تخلقها الآلهة، من طين، وتضع فيها كل الخصال، وهى «التى تمنح كل شىء»، انتقاما لسرقة بروميثيوس النار من الآلهة ومنحها للبشر. أمر الإله الأكبر زيوس تزويجها للإله العملاق أبيمثيوس، الذى أُمِرَ بخلق الحيوانات والبشر. حملت باندورا فى عرسها هدية أوصى زيوس بعدم فتحها، وكانت جرة احتوت كل الشرور: الشيخوخة والمرض والحرب والمجاعة والجنون والرذيلة والخداع والشغف والجشع والكبرياء... إلا أن فضول باندورا دفعها إلى فتح الجرة، فطارت الشرور منها وعمت عالم البشر...
هناك روايتان للأسطورة. الأولى للشاعر هسيودوس تقول إن الجرة كانت تحوى أيضا... الأمل. إلا أن الأمل لم يخرج من الجرة وبقى سجينا فيها. أما الرواية الأخرى فى إلياذة هوميروس وتتحدث عن جرتين، إحداهما تحتوى الشر والأخرى الخير... وبالتالى الأمل. وبقيت الجرة الثانية مغلقة.
***
تعود بنا هذه الأسطورة إلى إلهة الخصب لبلاد الشام وما بين النهرين، التى غالبا كانت تصور حاملة جرة. فالجرة منذ العصور القديمة هى الوعاء الذى يتم فيه حفظ القمح والزيت والغذاء... وكذلك بذار «الخصوبة» كى تعود الحياة للزرع والبشر. والخصوبة ألمٌ وأمل، عناءٌ ومشقة فى الزراعة ثم ربيعٌ وغلة خير، ألم ولادة وفرحٌ بالمولود أو المولودة. كما تعود بنا إلى أسطورة «كسر الجرة» المتوارثة منذ أزمنة الفراعنة فى مصر حتى يومنا هذا فى العادات الإسلامية: كسر الجرة فى نهاية شهر صفر، شهر النحس والشرور، كى يأتى «ربيع» الأول. وهى من أهم العادات المتوارثة منذ القدم والمنتشرة بشكلٍ كبير فى كل أنحاء المنطقة.
ما العبرة إذا فى أسطورة كسر الجرة؟ وما الذى تحرره الجرة عندما تُكسَر؟
فى مصر القديمة، كانت أسماء الأشخاص المسيئين (الذين يجلبون «النحس») تكتب على الجرار ثم تكسر الجرار كى لا يعودوا. وكانت طقوس الدفن تقوم أيضا على كسر جرار كعلامة حزنٍ على الفقيد والأمل ببعثٍ جديد. وفى إنجيل مرقص، كسرت امرأة «جرة» العطر قبل أن تضعه على جسد يسوع قبيل صلبه. وتكسر جرار («شربك» بتعبير أهل الجزيرة السورية) مليئة بالنقود أو الحلوى فى الأعراس لاستقدام الأولاد ليفرحوا بها. وتكسر الجرار على أبواب المنازل، بل وتحرق بعدها، كى تزول «الغمة» وتأتى «السعادة والهناء».
وما زالت عادات المنطقة تكسر الجرار لنبذ السوء إلى الماضى وللتبشير بالخير فى المستقبل. بحيث تذهب جميع هذه الرمزيات لكسر الجرة نحو تحرير الأمل الذى ما زال محتبسا فى جرة باندورا أو نحو فتح جرة الخير، كى تلاحِق فضائله الشرور التى حررتها جرة السوء.
***
يُمكن النقاش طويلا عن الأحداث التى شهدتها المنطقة وشكلت فتح جرة باندورا «المنحوسة»: أهى نكبة 1948 أو نكسة 1967 أو الفورة النفطية فى 1973 أو غزو الكويت 1990 أو غزو العراق 2003؟ وقد يضع البعض ضمنها انتفاضات «الربيع العربى»، غير أن ما خرج منها بداية هو الأمل. وقد يضع آخرون سياسات الرئيس الأمريكى ترامب فى فرض تطبيعٍ متسارع يشكِل قطيعة جديدة بين شعوبٍ وحكام.
إلا أن ما يعيشه الإنسان فى أغلبية بلدان المنطقة هو أشبه اليوم بذلك الذى فتحت عليه باندورا «الجميلة الفارهة» شرور جرتها. عمَت شرور الحرب والجنون والموت والجوع ومعها شرور الخداع والجشع والتسلط والاستغلال... وتفاقَمَ الشعور بـ«النحس» القائم مع وباء كوفيدــ19 وصعوبة كسب الرزق بحده الأدنى فى ظل الحجر الصحى وغرق العراق ثم سوريا ثم اليمن ثم ليبيا ثم لبنان ثم... فى العدم، ومن ثم انفجار بيروت كمشهدٍ... يوحى أن البشرية على مشارف نهايتها.
لا بد من «كسر جرة» تحرير الأمل وطاقة الخير... فإلى جنب جرار الشر التى فُتِحَت، هناك الكثير من جرار الخير والأمل لدى شعوب المنطقة... لكن أغلبها ما زال مقفَلا محفوظا، ربما تيمنا بمثلٍ إثيوبى قديمٍ يقول «مهما تجمع الذباب فلن يفتح الجرة»، وربما خوفا عليها ومحتواها من عواصف الشر.
لكن ربما فى هذا استهانة بقوة الأمل... ففى جرة باندورا كانت الشرور كثيرة، فى حين كان الأمل واحدا قادرا وحده على التغلب على جميع الشرور. وربما فى الأمر أيضا شعورٌ بضعف الحيلة أمام حجم الشرور. إلا أنه وكما يقول مثلٌ صينى شعبى أن «حجرا صغيرا قد يكسر جرة كبيرة»...
للأمل قوة كبيرة... لكن الظلام كان كبيرا قبل 2011، فبزغ الأمل من تونس وانتشر كقوةٍ كاسحة... ثم كسبت الشرور الجولة... شرورنا الكامنة فى أعماقنا البشرية وتلك للذين يظنون أنهم آلهة ويطمَعون... لكن، رغم ذلك، برهن الأمل أنه فقط... ممكنٌ.
وكل عامٍ وأنتم على أمل
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب.