السعودية وسياسة حافة الهاوية فى لبنان - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السعودية وسياسة حافة الهاوية فى لبنان

نشر فى : الإثنين 28 مارس 2016 - 10:30 م | آخر تحديث : الإثنين 28 مارس 2016 - 10:33 م
حاولت السعودية، فى سياق خصومتها المستمرة مع إيران، وردا على نجاحها المحدود فى اليمن والانتكاسات التى تعرضت لها فى سوريا، أن تعيد تأكيد نفوذها، وتحتوى أعداءها، وترص الصفوف – وأن تجرى، فى معرض ذلك، إعادة تقويم لبعض تحالفاتها. تشير الإجراءات التى اتخذتها الرياض أخيرا لممارسة ضغوط مالية ودبلوماسية على لبنان، إلى أنه ربما كان هذا الأخير الضحية الأولى للسياسة السعودية الجديدة. بيد أن ممارسة الضغوط على الدولة اللبنانية وحلفاء السعودية فى بيروت، قد تؤدى إلى إضعاف الطرفين معا، فيما تفشل فى تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمملكة.

فى الماضى، وعلى الرغم من أنه غالبا ما كان لبنان يشكل حلبة يتنافس فيها السعوديون مع إيران وسوريا، إلا أن الرياض سعت إلى إرساء علاقة عمل غير سهلة إنما براغماتية مع دمشق وحلفائها المحليين فى بيروت. فعلى سبيل المثال، عندما كانت القوات السورية متمركزة فى لبنان إبان الحرب الأهلية، دعمت الرياض بقوة إعادة الإعمار بعد الحرب ووظفت استثمارات طائلة فى الاقتصاد اللبنانى. كانت الرياض تستثمر عن طريق حليفها السياسى الأساسى فى لبنان – السلالة الاقتصادية والسياسية لآل الحريرى – إلا أنها حاولت فى الوقت نفسه عدم المساس مباشرة بالمصالح السورية. حتى بعد الصدمة التى أحدثها اغتيال رفيق الحريرى، لم تَثبت السعودية طويلا على موقفها الحازم ضد سوريا وإيران وحلفائهما فى الداخل اللبنانى. فبحلول عام 2008، كانت السعودية قد تخلت عن استراتيجية المواجهة ولجأت بدلا من ذلك إلى سياسة التقارب مع دمشق، إذعانا منها بأنه يستحيل وضع حد للتأثير السورى على السياسة الداخلية فى لبنان.

لكن الحرب الأهلية فى سوريا والخصومة السعوديةــ الإيرانية المتعاظمة كان لهما تأثير مباشر على لبنان الذى شهد انقساما حادا بين معسكرين أحدهما موالٍ للأسد والثانى مناهض له، ما تسبب بتفاقم الانقسامات القائمة أصلا فى البلاد. وقد أدى ذلك إلى شلل مستفحل وطويل الأمد فى السياسة الداخلية اللبنانية، أسفر عن شغور فى موقع رئاسة الجمهورية مستمر منذ مايو 2014. شعرت السعودية بالإحباط جراء الضربات التى تلقاها أخيرا نفوذها فى سوريا واليمن، فاتخذت سلسلة من الإجراءات الحازمة فى الأشهر القليلة الماضية والتى تهدف على ما يبدو إلى كسر الجمود، واحتواء «حزب الله»، ومحاولة فرض تغيير فى الاصطفاف الإقليمى الملتبس فى لبنان.

***
بدأ تضييق الخناق بصورة رسمية ردا على امتناع وزير الخارجية اللبنانى جبران باسيل، عن تأييد إدانة الجامعة العربية للهجوم على السفارة السعودية فى طهران فى يناير الماضى، الذى نُفِذ انتقاما لقيام السعودية بإعدام رجل الدين الشيعى البارز الشيخ نمر النمر. فى حين أعرب باسيل – الذى أصبح أيضا الرئيس الجديد للتيار الوطنى الحر المتحالف مع حزب الله – عن التضامن مع الرياض، امتنع عن تأييدها فى انتقادها الأوسع للأدوار الإقليمية التى تؤديها إيران وحزب الله، مبررا موقفه بسياسة «الحياد الرسمى» التى ينتهجها لبنان.

يبدو أن الرياض قررت، منذ تلك الواقعة، أن تفعل كل ما بوسعها من أجل وضع حد نهائى للتوازن الإقليمى الدقيق الذى يحاول لبنان الحفاظ عليه. وهكذا اتخذت المملكة فى 19 فبراير الماضى، قرارا رسميا بوقف المساعدات العسكرية التى كانت مقررة إلى الجيش اللبنانى لشراء أسلحة فرنسية، وقدرها ثلاثة مليارات دولار أمريكى، فضلا عن مليار دولار أخرى كان من المزمع تخصيصها للأجهزة الأمنية اللبنانية فى شكل عام. وكذلك ناشدت السعودية، إلى جانب البحرين والإمارات العربية المتحدة، رعاياها عدم السفر إلى لبنان الذى كان على مر التاريخ من الوجهات المفضلة بالنسبة إلى السياح الخليجيين. صحيح أن السعودية أحجمت حتى الآن عن اتخاذ خطوات اقتصادية، من شأنها أن تتسبب بأضرار أوسع، مثل سحب أموالها واستثماراتها من لبنان أو طرد العمال اللبنانيين من بلدان الخليج بأعداد كبيرة، إلا أنه من الواضح أن المملكة العربية السعودية تسعى إلى تكبيد لبنان ثمنا باهظا جراء محاولته التوفيق بين علاقاته مع طهران والرياض.

بيد أن السعودية رفعت الرهانات عبر السعى إلى عزل حزب الله، حليف إيران الأقوى فى البلاد، على الساحة الإقليمية. ففى الأسابيع القليلة الماضية، عمد مجلس التعاون الخليجى وجامعة الدول العربية، بتحريض من السعودية، إلى تصنيف حزب الله «تنظيما إرهابيا»، وذلك فى اجتماع مجلس وزراء الداخلية العرب ومن ثم اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب. وأعقبت هذه الخطوات تهديدات أطلقها مجلس التعاون الخليجى بملاحقة من يتعاملون بصورة غير مباشرة مع حزب الله، ومعاقبتهم. ومن جهتها، أعلنت البحرين، حليفة السعودية، أنها ستعمد إلى ترحيل اللبنانيين «الداعمين لحزب الله».

***
نجاح هذه الخطوات يتوقف إلى حد كبير على الأهداف الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية. إذا كانت المملكة تأمل فى ممارسة ضغوط على لبنان لجعله يتخلص من النفوذ الإيرانى ومن نفوذ حزب الله، فحظوظها بالنجاح ضئيلة جدا. لا تملك الحكومة اللبنانية الإمكانات السياسية أو «العسكرية» لكبح حزب الله، مع ما قد يترتب عن ذلك من إشعال فتنة داخلية لا تصب فى مصلحة أحد، بما فى ذلك السعودية.

أما إذا لم تكن السعودية تسعى إلى تغيير موقف لبنان الإقليمى، بل تريد أن توجه رسالة إلى البلدان الأخرى فى المنطقة بأنه حان الوقت لـ«حسم موقفها» والتوحد فى ظل الراية السعودية فى مواجهة إيران وحزب الله، فقد تتمكن من تحقيق نجاح أكبر فى هذا المجال. ومن إنجازاتها على هذا الصعيد حمل جامعة الدول العربية على تصنيف حزب الله تنظيما إرهابيا، على الرغم من أن هذه الخطوة أثارت درجة من الانقسام داخل الجامعة. اللافت هو أن التصنيف لم يكن محط اعتراض من لبنان وحسب، إنما أيضا من العراق، وبدرجة أقل، من تونس والجزائر.

إلا أن أى نجاح إقليمى محتمل سوف يترتب عنه ثمن معين تدفعه السعودية فى لبنان. المفارقة هى أن حلفاء السعودية فى لبنان سيكونون الضحية الأكبر للسياسة الأكثر صدامية التى تنتهجها المملكة فى التعامل مع لبنان وحزب الله. على وجه الخصوص، زُجَ رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريرى وتيار المستقبل فى موقف شديد الصعوبة. فقد دفعت الضغوط السعودية بتيار المستقبل إلى شن هجمات أشد قسوة ضد حزب الله. لكن تبين أن موقف الحريرى غير كافٍ لاسترضاء الرياض التى لمحت إلى أنها لن تتراجع عن قرارها قبل أن يتخلص لبنان من «تدخل حزب الله». غنيٌ عن القول أن الحريرى لا يستطيع تحقيق هذا الهدف، ما يجعله يبدو ضعيفا ومعزولا فيما يواجه تحالف 14 مارس الذى ينتمى إليه الحريرى، انقسامات جديدة على خلفية الانتخابات الرئاسية، ويواجه الحريرى نفسه تراجعا فى شعبيته داخل طائفته. يشعر اللبنانيون بأن السعودية تخلت عن الحريرى، وعما تبقى من الرأسمال السياسى خلف القوى التى أطلقت ثورة الأرز فى العام 2005.

***
فى ما يتعلق بالتأثير السعودى فى لبنان، ستؤدى هذه الخطوات، فى أفضل الأحوال، إلى تعميق الانقسام السياسى بين فريقَى 14 مارس و8 مارس. فى الواقع، سوف يتبين أنه من الصعوبة بمكان إرساء توازن بين التوجهات «الموالية للسعودية» وتلك «الموالية لسورية وإيران» التى ينقسم حولها المعسكران. فضلا عن ذلك، من شأن أى تباعد طويل الأمد بين السعودية وحلفائها فى الداخل اللبنانى أن يُضعف أكثر فأكثر قوى 14 مارس، وبالتالى أن يؤدى إلى خسارة القوى السياسية الوحيدة المتحالفة مع المملكة فى لبنان لمكانتها ونفوذها. فى أسوأ الأحوال، من شأن سحب الدعم السعودى عن لبنان أن يفسح فى المجال أمام زيادة التدخل السياسى والمالى الإيرانى. وقد عرضت إيران دعم الجيش اللبنانى، الأمر الذى قد يؤدى إلى مزيد من التراجع فى النفوذ السعودى.

إزاء إمكانية تنامى التدخل الإيرانى فى لبنان وتفاقم عدم الاستقرار السياسى والاقتصادى فى هذا البلد الذى يعانى من الهشاشة، أعربت الولايات المتحدة عن هواجسها بشأن المناورة السعودية الأخيرة. وكذلك انتقدت فرنسا الخطوة، وهو موقف منطقى نظرا إلى أن الصناعة الدفاعية لديها ستخسر ثلاثة مليارات دولار بسبب تجميد رزمة المساعدات العسكرية. صحيح أن التحفظات الأمريكية والفرنسية ليست فعالة بما يكفى لممارسة تأثير على علاقاتهما الثنائية مع المملكة، إلا أنه من الأجدى بالرياض أن تأخذ هذه الانتقادات على محمل الجد. قد لا يتسبب تضييق الخناق على لبنان بإحباط الأهداف الجيوستراتيجية للمملكة العربية السعودية وحسب، بل يمكن أن يزيد أيضا من تعقيدات الأوضاع الداخلية فى لبنان الذى يعانى أصلا من الهشاشة وعدم الاستقرار.
  
بينيديتا بيرتى
التعليقات