ريشى سوناك ذو الأصول الهندية صار رئيسا لوزراء بريطانيا، وحمزة يوسف ذو الأصول الباكستانية صار الوزير الأول لإسكتلندا، وصادق خان ذو الأصول الهندية صار عمدة لندن، وليو فارادكار ذو الأصل الهندى صار رئيسا لوزراء ويلز، ومنى شندى ذات الأصول المصرية صارت قائدة للسلاح البحرى الأسترالى، وكامالا هاريس ذات الأصول الهندية صارت نائبة لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وأخيرا هيرو مصطفى الأمريكية من أصل عراقى صارت سفيرة للولايات المتحدة فى مصر.
صفقنا حتى التهبت أكففنا وهتفنا حتى احتقنت حناجرنا من فرط زهونا وفخرنا بعد أن صار أبناء العالم الثالث يحتلون المناصب القيادية الرفيعة فى الدول الإمبريالية الكبرى والعظمى التى حكمتنا لسنين طويلة، وها نحن اليوم نحكم القوم المتكبرين العنصريين الذين طالما نظروا إلينا نظرة دونية متغطرسة من عليانهم.
شاهدنا فى مباريات كأس العالم لكرة القدم الفرق الأوروبية مشكلة من الأفارقة والعرب، وصاروا يعيشون فى البلاد الأوروبية كالملوك المتوجين. أما عن العلماء والأكاديميين فهناك أكثر، فكلنا فى مصر نعرف صاحب نوبل أحمد زويل والطبيب النبيل د/ مجدى يعقوب وهناك أيضا العراقية زها حديد التى صارت بريطانية وهناك المعمارى المصرى هانى عازر الذى استقر فى ألمانيا وبنى أكبر محطة لقطارات السكة الحديد فى برلين. كلنا نعرف عالمنا الكبير فاروق الباز ودوره فى برنامج وكالة ناسا الفضائية ولكن قلة سمعوا باسم عالمنا عصام معروف الذى كان محوريا فى البرنامج المشترك لوكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية لإرسال سفينة الفضاء cassini إلى كوكب زحل.
حتى فى مجال الفن هاجرت المطربة ابنة شبرا داليدا إلى فرنسا، ولحقها الرسام جورج بهجورى، واستقر عازف التشيللو ناجى الحبشى فى ستوكهولم عازفا فى الأوركسترا السيمفونى الملكى السويدى، أما مصمم الأزياء إيلى صعب فهجر لبنان المشتعلة إلى أوروبا وأمريكا.
دارت الدورة وبعد أن غزتنا أوروبا غزوناها وصرنا سادة برلماناتها ووزاراتها وجامعاتها ومراكزها العلمية وملاعبها الرياضية وحتى خطوط الأزياء والموضة صرنا نصنعها!
هل نتيه فخرا وزهوا بما حققه أبناء العالم الثالث أم نتأنى ونتأمل هذه الظاهرة بتروٍّ وموضوعية؟
• • •
لقد هجر معظم هؤلاء النابهين بلادهم بسبب ضيق الحياة والفقر وبسبب التفرقة العنصرية والدينية والعرقية وبسبب رفض انتماءاتهم ومعتقداتهم السياسية والأيديولوجية، أو لانسداد الطريق أمام تقدمهم بسبب الوساطة والمحسوبية وتلون المناخ العلمى والإعلامى والتضامنى بما أعاق مسيرتهم. عانت البلاد العربية من هذه الظاهرة فى بداية القرن الماضى عندما أدى عسف وجمود الحكم العثمانى إلى هجرة أفضل المواهب من الشام إلى مصر الأكثر انفتاحا، مثل سليم خليل تقلا مؤسس الأهرام، وجرجى زيدان مؤسس دار الهلال، ونجيب مترى مؤسس دار المعارف، ومنهم من هاجر إلى أمريكا مثل جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضى وميخائيل نعيمة وأمين الريحانى. ولم تقتصر هذه الظاهرة على البلاد العربية بل سادت فى أوروبا، فهاجر الأديب العظيم إريك ماريا ريمارك من ألمانيا إلى الولايات المتحدة بسبب الاضطهاد الذى تعرض له من السلطات النازية بسبب كتابه «كل شىء هادئ على الجبهة الغربية» الذى ينتقد الحروب، وهو الكتاب الذى أُحرق فى مهرجان حرق الكتب فى ميونخ فى ثلاثينيات القرن الماضى. كما هرب الكاتب توماس مان إلى سويسرا عقب وصول هتلر إلى السلطة وهو الفائز بجائزة نوبل فى الأدب. فى العلوم ترك أينشتاين ألمانيا إلى الولايات المتحدة بسبب تخوفه من الاضطهاد لديانته اليهودية، وكذلك إنريكو فيرمى وكان من العناصر الفعالة التى مكنت الولايات المتحدة من السبق فى إنتاج القنبلة الذرية.
على دول العالم الثالث أن تنتبه إلى أن العالم أصبح سوقا مفتوحة للمواهب والتميز العلمى والتقنى والفنى والرياضى، بالتالى أصبح المجال مفتوحا أمام المتميزين فى جميع المجالات للاختيار بين بدائل كثيرة فى بلاد كثيرة وشركات عالمية عملاقة مستعدة لاستقبالهم ودفع مقابل كبير لخبرتهم وعملهم.
إلا أن العائد المادى ليس العامل الوحيد الذى يجعل محيطهم الوطنى طاردا لهم ولمواهبهم بل هناك عوامل تمييز عديدة مثل، حرية الفكر وحرية العقيدة والانتماء السياسى والقبلى والعشائرى والإمكانات المتاحة للتقدم فى مجال البحث والدراسة بل ولشعور بعض النابهين بأن استمرار البقاء فى بلادهم لا يفيد لأن أحدا لا يأخذ برأيهم.
الظاهرة ستزداد بتطور وسائل الاتصال التى تجعل صاحب الموهبة والتمييز قادرا على التعرف على الفرص المتاحة على مستوى العالم، فضلا عن ازدياد قبول أبناء العالم الثالث بعد ظاهرة توقف النمو الطبيعى للسكان فى أوروبا واعتمادها فى تعويض النقص باستقبال المهاجرين، يضاف إلى ذلك أن ظروف استقبال ذوى التمييز من العالم الثالث قد تحسنت كثيرا عما كانت عليه فى مطلع القرن الماضى. ولعل الفيلم The man who knew infinity المعبر عن الظلم والعنف والعنصرية التى تعرض لها عالم الرياضيات الهندى Srinivasa Ramanujan عند التحاقه بجامعة كمبريدج البريطانية فى بداية القرن الماضى يوضح ذلك. أما اليوم فإن الغرب يستقبل النابهين من العالم الثالث بأيد مفتوحة وترحيب شديد حتى باتت نسبة كبيرة منهم لا تعود إلى بلادها بعد انتهاء دراستهم فى الجامعات الغربية بل يفضلون البقاء والعمل فى الشركات العملاقة حتى صار 45% من المديرين التنفيذيين للشركات الكبرى فى الولايات المتحدة من الهند ومنها شركة مايكروسوفت وشركة جوجل.
• • •
من المفارقات أن دول العالم الثالث باتت تعد أبناءها منذ نعومة أظافرهم للهجرة إلى الغرب بتعليمهم فى مدارس أوروبية أو أمريكية أو ما يسمى بالمدارس الدولية، فينشأ مغتربا عن بلده ولغته وأمله الحصول على ما يسمى بالجرين كارد قبل الحصول على الشهادة الجامعية!
لعله قد آن الأوان أن نتأنى قبل أن نردد البيت الذى طالما تغنينا به، والمنسوب بالخطأ إلى مصطفى كامل والذى قاله الشريف قتادة أبو عزيز الذى عاش قبل مصطفى كامل بأكثر من 800 عام والقائل:
«بلادى وإن جارت علىّ عزيزة، وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام».
أن نعمل إذا جارت علينا أو على أهلنا بلادنا، أن ندفع عنا وعنهم الجور والظلم، وأن ندرك أنه إذا استمر الجور فإن هناك بلادا أخرى تفتح أبوابها لخيرة أبنائنا وأنبههم، فنخسر خيرة أبنائنا بعد أن أنفقنا عليهم الغالى والنفيس، فيستمر نزيف العقول وتتسع الهوة بين الدول المتقدمة والدول التى تسعى لتحقيق النمو.
علينا أن نحتضن أبناءنا ونحافظ عليهم بالعدل وبتقدير عملهم وتحمل فكرهم وآرائهم حتى يجد مرضانا أطباء يداوونهم ومصانعنا مهندسين يديرونها ومدارسنا معلمين يعلمون أبناءنا، ولا تكتظ بهم مستشفيات ومصانع ومدارس أوروبا وأمريكا.
ولعلنا نطبق حديث رسولنا عليه الصلاة والسلام، «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، فلما سألوه كيف ننصره ظالما قال: «أنهاه عن الظلم».
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية