لا يساوى فى إصدارات كتب الزخم والتنوع وفى حمل شتى مشاعر القلق واليأس المتعلقة بالفرد الحديث، إصدارات كتب تتعلق بأوضاع المجتمعات الإنسانية، فرادى وتجمعات، وفيما يسمى بالعالم المتقدم أو ما يسمى بالعالم النامى.
على سبيل المثال، دعونا نذكر عددا صغيرا من العناوين الملفتة للنظر.
«الأخلاقية» للكاتب جوناثان ساكس الذى يحاول فيه أن ينعى غياب المصلحة العامة الطيبة فيما بين البشر، على المستوى المحلى والعالمى فى أوقات الانقسامات الحادة التى تشهدها البشرية بشكل متزايد حاليا.
ريبيكا سولنت تكتب كتابا بعنوان «سمهم باسمهم الحقيقى» بعد أن أصبح التلفيق والكذب صفتين من صفات العصر البارزتين، خصوصا فى السياسة والإعلام.
نورينا هرتز تكتب عن عصر الوحدة النفسى الذى شمل الملايين من البشر تحت عنوان «قرن الوحدة»، وهى تبرز أعدادا هائلة من الأسباب وأعدادا هائلة من النتائج التى ستنقل البشرية إلى العيش فى مشاعر اليأس والشقاء الروحى.
وريشارد ودانيال سسكند يكتبان عن تباشير المستقبل الأسود لشتى المهن تحت عنوان «مستقبل المهن»، ويستطيع الإنسان تصور الفوضى التى ستعيشها الأجيال القادمة إذا غاب فى حياتها تواجد الأطباء والمهندس والمعلم والمحامى والإعلامى الكلاسيكيين وحلت محلهم الروبوتات والذكاء الاصطناعى وما يشابهها أو يزيد على قدرتها، فقدرات الشر فى الذهن البشرى لا حدود لها.
وحتى إله القرنين الماضيين، العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، صدر بشأنه كتاب تحت عنوان «علوم سيئة» بقلم بن جول، ولن نعرف من وما سيحل مكان ذلك الإله، فالتاريخ ملىء بشتى صنوف التخبطات فى هذا المجال.
وإذا كانت العلوم ستصبح منبوذة بسبب ما فعله الإنسان بها فلن نستغرب أن يكتب توم نيكولاس كتابا بعنوان «موت الخبير»، فإذا نعينا المعرفة فإننا حتما سننعى ناقل المعرفة.
منذ فترة قصيرة كتب جيمس بريدل كتابا ملفتا إلى أبعد الحدود تحت عنوان «عصر الظلام الجديد»، إنه العصر الذى بدأ يطفئ أنوار مصابيح عصور الأنوار التى أشعلتها أوروبا منذ أكثر من ثلاثة قرون، والذين يقومون بعملية الإطفاء ليسوا من الذين يعيشون فى العالم النامى والمتأخر وإنما هم من الذين يعيشون فى أوروبا نفسها وحيثما هاجروا إلى مناطق مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا أو اغتصبوا فلسطين المحتلة.
نحن إذن أمام رفضٍ لأنظمة هذا العالم وأمام شكوك كثيرة حول ما كنا نعتقد أنها منجزات علمية وتكنولوجية كبرى، ويرافق ذلك مشاعر الوحدة النفسية الوبائية أو الانغلاق الذاتى الفردى الأنانى العبثى، ويظهر أنه لا يوجد من يلعب دورا قياديا كما كان يحدث من قبل يخرج الوضع الإنسانى من ورطات كثيرة يعانى منها. مواجهة هذه الأمور التى يعتقد أنها تحتاج إلى إصلاح من قبل كتاب أفراد واعين ملتزمين ومجموعات صغيرة من قرائهم، خطوة مهمة ولكن ليست كافية، ومواجهتها على مستوى محلى لن يفيد إلا جزئيا، ذلك أن كل مثلب يشار إليه أصبح مثلبا عالميا منتشرا عبر العالم كله.
منذ هبوب رياح الأفكار النيوليبرالية وما تبعها من تطبيقات من قبل أنظمة حكم مجنونة ومؤسسات دولية مخترقة وعشرات من مثل تلك العناوين التى تصدر سنويا، فلا تمثل إلا رغوة تسبح دون تأثير. المطلوب أكثر من ذلك بكثير.
فى الماضى كانت هناك الأحزاب الأيديولوجية التى كانت لها مواقف مما يصيب البشرية. اليوم ضعفت تلك الأحزاب إلى أبعد الحدود ولم تحل مكانها مؤسسات جماهيرية منتظمة فعالة، وإنما مجموعات صغيرة متباعدة غير متعاضدة، سواء على المستوى المحلى أو على المستوى العالمى أو الإقليمى.
لقد أصبح موضوعا برمته فى يد أقليات مهيمنة ماليا وأمنيا وسياسيا فاسدة عاجزة. وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة علينا نحن العرب وعلى غيرنا. وسنكون من المخطئين لو تجاهلنا تلك الأسئلة إلى حين انفجارها فى وجوه الجميع.