نشرت مجلة جاكوبين الأمريكية مقالا للكاتب تونى جرينشتاى يتناول فيه تصريح نتنياهو الأخير حول المحرقة الألمانية لليهود. مدعيا فيه أن تم يطلب من مفتى القدس حينها أمين الحسينى، ويستنكر الكاتب هذا الادعاء مستشهدا بالعديد من المؤرخين والأحداث لنفى أى تواجد عربى فلسطينى فيما يخص مسألة المحرقة. وبداية يشير جرينشتاى إلى التصريح، ففى مؤتمر المنظمة الصهيونية العالمية، طرح رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ادعاء، تجاوز كل الحدود، حتى بمقاييسه هو نفسه. حيث قال إن هتلر كان فى البداية يسعى فقط لطرد اليهود من أوروبا (فيما كان يعرف باسم خطة مدغشقر)، وأن فلسطينيا هو مفتى القدس، أقنعه بالشروع فى حملة إبادة اليهود.
ويوضح جرينشتاى أنه عند سماعه لتصريح نتنياهو لأول مرة، تذكر ادعاء مماثلا للقس جون هاجس، رئيس منظمة «مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل». فقد صرح هاجى، وهو شديد العداء للسامية، فى إحدى العظات أن هتلر كان «قناصا» أرسله الرب لدفع اليهود إلى إسرائيل.
غير أنه، وفقا لهذا الكلام الأخير، يبدو أن هتلر كان عميلا للمفتى وليس للرب.
•••
يبين جرينشتاى أن هذا التصريح سيكون مربحا لمنكرى المحرقة. ولكن نتنياهو، يقوم بنفس ما كان المؤرخون الصهاينة يقومون به لأكثر من ستين عاما ــ تصوير الفلسطينيين وقادتهم كما لو كانوا الشركاء الرئيسيين فى المحرقة، وبالتالى زعم أن العداء العربى للصهيونية له علاقة بالاستعمار الاستيطانى وسرقة الأرض، والطرد الجماعى. ويرجع ذلك كله إلى أن الفلسطينيين والعرب يكرهون اليهود. وبعبارة أخرى، ليست مناهضة الصهيونية سوى معاداة السامية.
وقد لعب المتحف الصهيونى فى القدس لإحياء ذكرى الهولوكوست، ياد فاشيم، دورا مهما فى ذلك؛ فلديهم جدارا كاملا مكرسا لمفتى القدس. كما أن القسم المخصص للمفتى فى موسوعة الهولوكوست، أقصر قليلا من القسم المخصص لهتلر وأكبر من حجم البيانات المجتمعة عن جوبلز، جورينج، هيدريش، وهيملر.
وبرغم انتقاد جرينشتاى لمفتى القدس إلا فكرة أنه حرض على الحل النهائى يراها سخيفة. فإذا كان هناك مجرم حرب كبير، فهو والتر رؤوف، مؤسس غرف الغاز الذى اخترع شاحنات نقل الغاز، التى استخدمت لأول مرة فى برنامج «التحرك T4» النازى للقتل ثم فى برنامج الحل النهائى عند القضاء على اليهود. فقد كان رؤوف يحمل دم نحو مائة ألف يهودى على يديه، وحاول، عندما احتل النازيون تونس فى عام 1943، بناء معسكر إبادة فى مدينة القيروان لقتل يهودها. غير أنه لم يواجه العدالة حتى الآن، وبعد الحرب أصبح عميلا لإسرائيل، وساعدته إسرائيل فى وقت لاحق على الهرب إلى أمريكا الجنوبية.
•••
ولا معنى لأن يتجاهل نتنياهو الدور الذى لعبه الصهاينة فى مباركة الحاج أمين الحسينى المفتى بعد أن فاز للمرة الرابعة فى الانتخابات لهذا المنصب فى عام 1921. ولا شك أن المندوب السامى البريطانى السير هربرت صموئيل، الذى لعب دورا أساسيا فى الضغط من أجل وعد بلفور، اختار الحسينى لأن الصهاينة رأوا فيه شريكا محتملا.
ويشير جرينشتاى إلى اعتبار الكثير من الفلسطينيين أن المفتى كان متعاونا مع البريطانيين بعد ثورة 1936ــ1939. فلم ينتخب الفلسطينيون الحاج أمين الحسينى فى أى مرحلة، ولكنه فرض عليهم من قبل البريطانيين والصهاينة. وكان المفتى مسئولا عن تجنيد ثلاث فصائل من المسلمين فى البوسنة، تهتم فى المقام الأول بمحاربة الصرب. ولم يتورطوا فى عمليات ترحيل اليهود فيما عدا تسليم نحو 210 يهود من كوسوفو الحالية إلى وحدات «إس إس» التابعة للحزب النازى.
ويستشهد جرينشتاى بما لاحظه جيلبرت الأشقر فى كتابه العرب والمحرقة، بأنه لم يكن الجنود مهتمين بقضية تحالف «المحور» بالحرب العالمية الثانية لدرجة أنهم عندما تم إرسالهم لإعادة التدريب فى فرنسا، انشق منهم الكثيرون بسرعة وانضموا إلى المقاومة.
ولا يذكر نتنياهو أيضا الإعلانات الثلاث الصادرة عن كبار رجال الدين المسلمين فى البوسنة ضد أعمال الكروات والنازيين ضد اليهود والصرب ــ فى موستار، ديسمبر عام 1941، وفى سراييفو فى شهر أكتوبر من نفس العام. وفى ألبانيا المسلمة، البلد الوحيد الذى احتله النازى فى أوروبا، كان عدد اليهود فى نهاية الحرب (ألفان) أكبر من عددهم فى بدايتها (مائتان). ولم يتم ترحيل يهودى واحد من ألبانيا تحت الاحتلال النازى.
ويرد نص اللقاء بين هتلر والمفتى فى 28 نوفمبر 1941 فى كتاب ولتر لاكور «القارئ الإسرائيلى والعربى» وليس فيه أى إشارة من المفتى لحث هتلر على إبادة اليهود. وقد تم إبلاغه فقط بواسطة هيملر عن الحل النهائى فى صيف عام 1943. وخلال حديثه مع هتلر، ضغط المفتى حتى تعلن ألمانيا تأييد استقلال الدول العربية ــ سوريا والعراق وفلسطين. ورفض هتلر قائلا إن ذلك سيسبب مشاكل فى فرنسا ويعزز موقف مؤيدى شارل ديجول، الذى يرون فيه خطرا على الإمبراطورية الفرنسية.
يعتقد جرينشتاى أنه لم يكن لدى هتلر نية دعم الاستقلال العربى. فاذا كانت ألمانيا ستغزو الدول العربية، فستحل فقط محل بريطانيا وفرنسا باعتبارها قوة استعمارية. وبالنسبة للكثير من النازيين، يعتبر العرب فى درجة أقل على السلم العنصرى من اليهود.
وعندما التقى المفتى بهتلر، كان الحل النهائى قد بدأ بالفعل، مع غزو روسيا فى يونيو 1941. وبحلول ذلك الوقت، كان قد تم إطلاق النار على ما يقرب من مليون يهودى على يد وحدات فرق القتل، التى تعمل فى روسيا البيضاء وأوكرانيا. وبنهاية سبتمبر ١٩٤١ كان قد تم قتل أكثر من ٣٣ ألف يهود فى منطقة بابى يار على أطراف كييف.
ووقعت تجربة القتل بالغاز فى سبتمبر 1941 فى أوشفيتز عندما قتل 850 من البولنديين والروس أسرى الحرب. وفى بداية ديسمبر 1941، بدأ خيلمنو، أول معسكر إبادة، عملياته باستخدام غاز أول أكسيد الكربون فى الشاحنات المتنقلة، وتم تشغيل معسكر بلزك مارس 1942.
•••
ويلجأ جرينشتاى إلى مذكرات جوبلز، فوفقا لها، ألقى هتلر فى 12 ديسمبر 1941 خطابا فى برلين على قادة الحزب النازى. جاء فيه: «وفيما يتعلق بقضية اليهود قرر الفوهرر عملية التطهير. وكان قد تنبأ بأنهم إذا تسببوا فى حرب عالمية أخرى، فإنهم سيواجهون الفناء. ولم يكن هذا كلاما فارغا. فها هى الحرب العالمية، ويجب أن يكون إبادة اليهود نتيجة لأزمة. ولا يجب التعاطف فى هذه المسألة، فنحن لن نتعاطف مع اليهود، ولكن التعاطف فقط مع شعبنا الألمانى».
فإذا كنا سنصدق نتنياهو، فسيكون هذا الكلام لم يأت إلا نتيجة اجتماع هتلر مع المفتى.
كذلك فى إشارة إلى كتاب « كفاحى» كتب هتلر أن «تضحية الملايين فى الجبهة» فى الحرب العظمى كان من الممكن تفاديها إذا تم «وضع اثنى عشر أو خمسة عشر ألفا من هؤلاء المفسدين العبريين تحت الغاز السام».
وفى خطابه «النبوءة» 30 يناير 1939، كرر هتلر ثلاث مرات على الأقل، الحديث صراحة عن إبادة العرق اليهودى.
وعلى ذلك يتنبأ جرينشتاى أنه إذا نجح الممولون اليهود فى العالم، داخل وخارج أوروبا، فى إغراق الدول فى حرب عالمية، فإن النتيجة لن تكون انتصارا لليهود، ولكن إبادة من العرق اليهودى فى جميع أنحاء أوروبا.
وتشير بعض التقديرات، إلى أنه بمجرد تطبيق برنامج الحل النهائى ــ « T4» – كانت النتيجة، قتل أكثر من خمسمائة ألف من الألمان ذوى الاحتياجات الخاصة فى ستة مراكز للقتل فى ألمانيا نفسها، قبل أن يحتج الأسقف الكاثوليكى جالينوس مونستر على ذلك، ويضطر هتلر لإنهاء البرنامج، على الرغم من أنه استمر فى معسكرات الاعتقال.
وينتهى جرينشتاى إلى أن مستقبل الصهيونى برمته يقوم على إعادة كتابة التاريخ. ولا تعتبر «عودة» اليهود إلى فلسطين، وإنكار النكبة، ومن كان مسئولا عن المحرقة، استثناء من هذا. فلا شك أن محاولة نتنياهو تحويل عبء تلك الجرائم المروعة من النازيين إلى الفلسطينيين ليست جديدة.