ما زلت أذكر علامات البهجة التى كانت تحتل قسمات وجه أبى، كلما أطل على الشاشة هذا الرجل الجاد، الذى تحيطه هالة من الكوميديا التلقائية غير المصطنعة فى كل حركاته وسكناته. يكفى أن يتصدر الشاشة بوجهه الصارم وملابسه الرثة ونبرات صوته الغليظة حتى تنتقل عدوى السعادة من أبى إلى كل المحيطين بشاشة التلفزيون... فى البداية لم أكن أفهم سر إعجاب الوالد بأداء نجيب الريحانى، كنت فقط أضحك لأننى أحب أن أرى أبى سعيدا، ذلك الرمز الشامخ الذى نادرا ما رأيته عابسا لكنه مع ذلك لا يسهل إضحاكه ولا يتساهل مع الإسفاف والابتذال.
التقى أبى نجيب الريحانى صغيرا، سألته عن انطباعه بلقائه والجلوس معه على أحد المقاهى بالإسكندرية، قال إنه كان جادا جدا ولم يحاول أن يكون مرحا أو ساخرا. كان ذلك أحد أعمق أسرار نجيب الريحانى، هو لا يرهقك بأداء مصطنع لينتزع منك الضحك رغما عنك، بل يضع بعبقرية نادرة يده ويدك على مواطن الضحك فى كل تفاصيل حياتنا البسيطة.
لا أحب أن أكرر ما سمعته من عشرات النقاد، الذين أبرزوا الجانب المظلم فى حياة كل كوميديان، وأن الفنان الذى احترف إضحاك الناس يخفى فى نفسه مرارة لا يعرفها سواه... ذلك من أنباء ما قد سبق. كما إننى لست ناقدا فنيا أو مؤرخا سينمائيا يأتيك بترجمة لحياة نجيب الريحانى أو غيره من عظماء الكوميديا الكاشفة تراجمهم عن جانب كئيب أمثال شارلى شابلن وروبن ويليامز وودى آلن.. غير أن غواية الكتابة عن الريحانى قد سكنتنى قبل ساعات من نهاية عام ٢٠٢٠ الذى مضى ثقيلا مؤلما على سكان كوكب الأرض، لكنه كان أيضا ملهما لتقدير النعم التى حبانا الله بها وحرمها الكثيرين من
خلقه. أظن أن جيلى هو آخر جيل تأثر ولو قليلا بأعمال نجيب الريحانى. أحاول جاهدا أن أقدمه لصغيرىّ مرشدا إياهما إلى مواطن الإعجاز فى سهله الممتنع. كان الريحانى جامعة كاملة تخرج فيها عظماء التمثيل والتأليف والإخراج والاستعراض فى مصر والعالم العربى.
***
وحدها الأقدار التى وضعت الفنان المسرحى عزيز عيد فى طريق الريحانى عندما تزاملا فى البنك الزراعى. ما إن استقال «عيد» من وظيفته فى البنك حتى أسس فرقة مسرحية قدّمت عروضها على مسرح إسكندر فرح، وانضم إليه نجيب الريحانى، ذلك الشاب المولع باللغة العربية وحب الإلقاء منذ أن كان تلميذا فى مدرسة الفرير بالخرنفش، ثم سرعان ما أحرز الفن انتصارا عظيما، بفصل الريحانى من وظيفته الروتينية فى البنك الزراعى بسبب انشغاله بالتمثيل.
ولما كانت أدواره الثانوية فى فرقة عزيز عيد لا تستهويه، فقد انضم إلى فرقة سليم وأمين عطا الله بالإسكندرية مقابل أربعة جنيهات شهريا، وسرعان ما دفع ضريبة نجاحه المبهر فى دور شارلمان برواية «شارلمان الأكبر» عندما وقف أمام مديره وبطل الفرقة سليم عطا الله، وحاز على إعجاب الجمهور والزملاء، وبدلا من الحصول على علاوة أو تقدير أدبى نظير إبداعه تم استبعاده من الفرقة! وأظن أن هذا الموقف المأساوى المبكر فى حياة الريحانى قد ساهم فى صهر شخصيته الساخرة العميقة بآلام تثير فى النفس الحيرة والاضطراب، إذ لا يعرف المبدع شيئا فى الحياة أحب إليه من إتقانه استعراض موهبته، ولا ينتظر مقابلا لهذا الإحسان إلا الإحسان، لكن أهل الصنعة ينفسون على صاحبهم موهبته التى صبغه الله بها.
يقول الريحانى فى مذكراته «استدعانى الأستاذ سليم مديرنا رحمه الله، فقلت يا واد جالك الفرج، وظللت أخمن وأحذر مقدار العلاوة التى سيتحفنى بها وإن كنت أنا شخصيا قانعًا بالجنيهات الأربعة، التى رُبطت لى. وحبكت أزرار جاكتتى ودخلت على مديرى باسما متهللا معللا نفسى بالآمال قائلا فى سرى إنه يكفينى أن تكون العلاوة جنيها واحدًا وخلينى لطيف لأن الطمع يقل ما جمع، وبعد هذا الحوار، ابتدرنى المدير قائلا بتلك الجملة المأثورة التى لا يزال صداها يرن فى أذنى: أنا متأسف جدا يا نجيب أفندى لأن الفرقة استغنت عنك». كان موقفا شديد الشبه بمشهد له فى فيلم «سى عمر» الذى استغنى خلاله ناظر العزبة الفاسد عن الباشكاتب الذى أتقن عمله بإخلاص وضمير.
حينما ترك الريحانى فرقة سليم عطا الله التحق فى عام 1910 بوظيفة بسيطة فى شركة السكر بنجع حمادى، ذلك الصرح الصناعى الكبير الذى لم يزل قائما حتى يومنا هذا ضمن أصول وأنشطة شركة السكر والصناعات التكاملية التابعة لوزارة التموين. لكن الريحانى لم يعمّر فى تلك الوظيفة أكثر من سبعة أشهر والسبب يرجعه البعض لفضيحة أخلاقية، بينما يظل السبب الحقيقى هو أنه لم يولد ليسجن فى وظيفة تقليدية مستقرة، ذلك أنه ما إن عاد إلى القاهرة حتى طرد من بيت والدته وعمل مترجما لإحدى الفرق الجوالة وكان يفترش الرصيف ويتقاضى راتبه طعاما، حتى أعيد إلى عمله السابق بشركة السكر وأتقن العمل وتفوق على أقرانه واستقر به هذه المرة حتى العام 1914... لكنه فصل مجددا بعدما وقع أسيرا لتجربة مسرحية جديدة قادها هذه المرة جورج أبيض ودعاه للالتحاق بها صديقه القديم عزيز عيد.
كان يكفى كى ينقلب المسرح الوقور رأسا على عقب، وتتحوّل الدراما الجادة إلى «فارس»، ويدخل الجمهور فى نوبة من الضحك، أن يتقمص نجيب الريحانى شخص إمبراطور النمسا فرانس جوزيف الأول، بهيئته المضحكة التى اشتهر بها فى الجرائد المصرية أثناء تغطية أحداث الحرب العالمية الأولى، بينما كان المقصود هو أداء دور ثانوى فى مسرحية تاريخية جادة عن صلاح الدين الأيوبى، جسّد فيها جورج أبيض شخصية ريتشارد قلب الأسد، واختير الريحانى لأداء دور إمبراطور النمسا فى تلك الفترة الزمنية. لم يبتسم الريحانى أو يبتذل، أو يخرج عن النص، أو يغير شيئا فى دوره المحدود بالمشهد، لكنه استخرج بحسه الكوميدى البارع، وفهمه العميق لمشاعر الجمهور لوحة ساخرة طغت على الرواية، وكادت أن تغرق بطل العرض فى الضحك بعد أن أخرجته من تقمّصه. وهذا موعد جديد مع الاستبعاد من الفرقة جزاءّ لإتقانه ما يعرفه ويجيده.
***
كان الريحانى دائما مقياسا لنبض الشعب، ملتحما بفئاته، حريصا على مجالسة الناس فى المقاهى وحضور حفلات منافسيه. قدّمت فرقته شخصيات مصرية خالصة، وألهبت بفعل أزجال بديع خيرى المشاعر الوطنية ضد الاحتلال، ومع ذلك فقد سقطت رائعتهما «العشرة الطيبة» ضحية لغلبة مشاعر الكراهية ضد الإنجليز، إذ احتسبها البعض عملا موجّها ضد العثمانيين لصالح دولة الاحتلال المنتصرة فى الحرب.
لم تسر حياة الريحانى فى خط مستقيم أبدا. كانت حياته كلها مرتفعات ومنخفضات، تعرّض خلالها للغيرة والخيانة وعزوف الجماهير... فقد احترف العمل المسرحى تأليفا وترجمة وإخراجا وتمثيلا وإدارة، وواكب تقلبات الذوق العام متحملا خسائر مادية ومعنوية قاسية. انتقل بين المسرحية الفرانكو ــ عربية، والفارسات الفرنسية، والأوبريت الغنائى، والميلودراما... وخلق شخصيات خالدة مثل «كشكش بك» العمدة القروى الساذج الذى ابتكره من وحى لقائه بعملاء البنك الزراعى الذى التحق به فى أول حياته، ثم صار «كشكش بك» ملاذه الآمن الذى يعود إليه كلما تعثّر فى الطريق.
فى كل عقبة ظاهرها الإخفاق استخلص الريحانى مغنما عظيما، حينما انصرف عنه مؤلف ومترجم عروضه الأبرز «أمين صدقى» لينضم إلى منافسه على الكسّار، ظهر «بديع خيرى» ليحل محل «صدقى» ويصنع بأعماله الأصيلة والمعرّبة، وأزجاله الفكاهية المقربة من المصريين مجد الريحانى المسرحى والسينمائى الذى نعرفه اليوم. حينما فشلت جولته المبكرة فى بلاد الشام لعرض شخصية كشكش نظرا لكون «أمين عطا الله» قد سبق بانتحالها بلهجة شامية، عاد «نجيب» من جولته بزوجته المستقبلية، ورفيقة كفاحه، وصانعة النجوم «بديعة مصابنى».
***
أمثال الريحانى من المبدعين الذين اختبروا مشاعر القهر والفشل والظلم، ترى لهم بريقا خاصا إذا اعتلوا خشبة المسرح، أو أطلوا عليك من الشاشة. كأنك تنظر فى أعماقهم وتنهل من تجارب حياتهم فى كل مشهد. ما زلت أستحضر وجه أبى كلما صادفت نجيب الريحانى على شاشة التلفزيون، أضحك لضحكه وأبكى لذكراه، لكننى لا شك أضحك وأبكى اليوم مدركا لمعجزة الريحانى ومقدرا لعظمته.