«إلى أرض مجهولة».. سينما الهجرة غير الشرعية تُنصف بشرها - خالد محمود - بوابة الشروق
الأحد 29 ديسمبر 2024 5:28 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«إلى أرض مجهولة».. سينما الهجرة غير الشرعية تُنصف بشرها

نشر فى : السبت 28 ديسمبر 2024 - 6:15 م | آخر تحديث : السبت 28 ديسمبر 2024 - 6:33 م


دون شك يبقى أجمل ما فى تعامل السينما مع قضايا الهجرة غير الشرعية أنها أنصفت بشرها ممن تروى قصصهم، نعم اتخذت بعض الأفلام موقفًا محايدًا من طرفى المعادلة، لكن الغالبية العظمى من الأعمال انتصرت للإنسانية، وغاصت صورتها إبداعًا، مثلما غاص أبطال الحكايات فى آلامهم وأوهامهم وأحلامهم، وهم يبحثون عن حياة جديدة وطوق نجاة.
ويأتى الفيلم الفلسطينى «إلى أرض مجهولة» للكاتب والمخرج مهدى فليفل، الفائز بالجائزة الفضية، وجائزة أفضل ممثل، بمهرجان البحر الأحمر، وكذلك فضية مهرجان قرطاج، ليشكل دراما واقعية جريئة ونظرة عميقة ورؤية ثاقبة ومدهشة وجيدة على كل المستويات، حول معاناة اللاجئين اليائسة عن الشباب الفلسطينيين المحاصرين فى حالة من المنفى الأبدى، عبر قصة شابين من المهاجرين فى أثينا، يحاولان بكل ما أوتيا من قوة الخروج من هناك لإحساسهما بأنهما عالقان بين وطن لا يمكنهما العودة إليه ووطن جديد لا يعرفانه.
لاجئان فلسطينيان شاتيلا (محمود بكرى) ورضا (أرام صباح) جعلا العاصمة اليونانية أثينا موطنهما المؤقت أثناء بحثهما عن ملاذ من الصراع المستمر الدائر فى بلدهم، ولكن هذا أيضًا يصبح عبئًا عليهما فى النهاية عندما يدركان أن عليهما إيجاد طريقة لكسب لقمة العيش.
هذا هو الأساس لفيلم «إلى أرض مجهولة»، وما يطرحه من دراما مؤثرة، إذ يتناول المغامرات اليومية التى يخوضها ابنا العم «شاتيلا» و«رضا» أثناء محاولتهما تلبية احتياجاتهما فى هذه المدينة الجديدة، الأمر الذى يتطلب منهما فى كثير من الأحيان اتخاذ تدابير يائسة وحتى اللجوء إلى جرائم بسيطة من أجل إعالة أنفسهما، مع العلم أنه من المستحيل بالنسبة لهما العودة إلى المنزل فى الوقت الحالى.
يقدم الفيلم الذى يجمع بين الموضوعات الشائكة والصورة البصرية الرائعة والمتقنة رحلة أخرى آسرة للغاية إلى الحالة الإنسانية، كما نراها من خلال عيون شخصيات تريد ببساطة البقاء على قيد الحياة بأى وسيلة ضرورية، فيما يستكشف الحقائق القاسية التى يواجهها اللاجئون الذين يفتقرون إلى وطن أو جنسية، من خلال سرد قصصى محكم وأداء مؤثر عاطفيا.
تُصبح الألفة عنصرا أساسيا فى الكثير من القصص التى تحمل طابعًا اجتماعيًا، وذلك لأنه من المهم وضع المشاهد فى عالم يتعرف عليه، حتى ولو من مسافة بعيدة، فالفيلم يرسم العديد من الترابطات مع أعمال قائمة، على الأقل من حيث البنية والفكرة المطروحة، ويبدأ بقصة شخصين لم يحالفهما الحظ تمكنا من الفرار من وطنهما الذى مزقته الحرب، ولكن عليهما الآن محاولة الاندماج فى مجتمع آخر.
من خلال هذه العناصر يجمع فليفل فيلمًا يبدأ كمزيج ساحر من الفكاهة والكآبة، لكنه يتحول فى النهاية إلى دراسة شخصية أكثر تعقيدًا تسلط الضوء على كآبة تجربة المهاجرين، وكيف يواجه العديد من الأشخاص بعض الحقائق القاسية عند البحث عن ملجأ فى بلدان أخرى.
تدور الفكرة الأساسية حول الهوية وتآكلها، حيث يعيش البطلان حياة عابرة، لا يتمكنان من الاستقرار فى وجود مريح، ويجب عليهما بدلا من التحرك عبر الحياة بإحساس إدراكهما الشخصى واستعدادهما لتقديم بعض التضحيات الشديدة التى لا يمكن لأولئك فى مواقف أكثر امتيازًا وأمانًا أن يستوعبوها أبدًا، حيث يمكن أن يكون العيش فى حالة من الغموض نعمة وعبئًا فى نفس الوقت.
نعم يعد فيلم «إلى أرض مجهولة» مألوفًا بالتأكيد من حيث الأفكار التى يكتشفها، ولكن نرى بعض الخيارات الإخراجية ابتكارًا، حيث استخدم فليفل بُعدًا من السينما الواقعية لتوجيه الفيلم، متبعًا نهجًا مباشرًا نسبيًا لاستكشاف هذه الموضوعات.
من الناحية البصرية، يتجلى الكثير من قوة فيلم «إلى أرض مجهولة» فى صورته، فالصور الشاملة للساحل اليونانى أو الأزقة الضيقة فى أثينا تنقلنا إلى اجواء عالم الهجرة غير الشرعية.
ومن المثير للاهتمام أن العديد من المشاهد الأكثر تأثيرًا لا تتضمن سوى القليل جدًا من الحوار، فمن خلال اللقطات القريبة الضيقة، تنقل وجوه الممثلين أحجامًا، وتبدو مسامهم وتجاعيدهم ملموسة، وفى لحظات أخرى، تبتعد الكاميرا أكثر، فتستوعب لغة جسد المتحدث وتفاعلاته، وتغمرنا هذه الاختيارات البصرية بالكامل فى اليأس الخاص، أو التبادلات المتوترة كونه لا يزال يجد طرقًا مثيرة للاهتمام لمراقبة الشخصيات وهم يشقون طريقهم عبر الحياة.
تقترب الكاميرا باستمرار من الأبطال، مما يخلق شعورًا بالألفة (أو ربما حتى التلصص إلى حد ما) بينما نلقى نظرة على حياتهم، وتتابعهم وهم يحاولون اجتياز يوم آخر.
جوهر الفيلم مبتكر وجرىء حقًا فى بنيته وسرده، كما أن الروح المتقاربة التى يتمتع بها الممثلان محمود بكرى وأرام صباغ، والتى يجسدان من خلالها البطلين الرئيسيين تضيف أصالة للمشهد العام، خاصة وأنهما يظهران إحساسًا قويًا بالسلاسة من حيث أدائهما، وقدرتهما على تغيير شخصياتهما لتتناسب مع الإيقاع غير التقليدى والمتغير باستمرار للسرد.
يتناول الفيلم عددًا من اللحظات الصعبة بتوازن كملحمة سينمائية وجودية جميلة ومخيفة ومزعجة فى الوقت نفسه، ليصبح عملا أساسيًا للغاية فى نطاق صناعة الأفلام الواعية اجتماعيًا، والتى لا يمكن أن تشعر بأنها أكثر إلحاحًا مما هى عليه الآن، سواء فى كيفية تناولها للوضع الحالى فى الشرق الأوسط، أو المساهمة فى الخطاب المستمر حول أزمة اللاجئين.
«إلى أرض مجهولة» فيلم مؤثر وشاعرى للغاية، قوى السرد ويقدم صورة صارخة للواقع، على أمل خلق تصوير أكثر أصالة لهذه الأزمة المستمرة والأشخاص الذين ضلوا طريقهم، تكريمًا لهم وللعديد من الآخرين الذين وجدوا أنفسهم يبحثون عن منزل فى عالم جديد.
فى ذروة الأحداث نجد أبطال الفيلم «شاتيلا» و«رضا» يتسكعان فى حديقة ويبدو أنهما لا يفعلان شيئًا، حتى ندرك أنهما على وشك سرقة حقيبة امرأة، فمواردهما قليلة ولا توجد فرص عمل، لذا فإن هدفهما الوحيد فى تلك اللحظة هو سرقة ما يكفى لشراء جوازات سفر مزورة والانتقال إلى ألمانيا، حيث يمكن أن تكون الحياة أفضل.
تصوير فليفل لعالمهم أصيل وكئيب فى الوقت نفسه.. هؤلاء شباب لديهم شغف وأحلام مثلنا جميعًا - لدى شاتيلا أيضًا زوجة وابن عالقان فى مخيم للاجئين فى لبنان - لكنهم أصبحوا غير قادرين على الحركة بسبب الوضع فى فلسطين وسياسات الهجرة الأوروبية الصارمة التى تعوقهم.
لا يتضمن فيلم المخرج مهدى فليفل أى رسالة سياسية صريحة، ولا يوجد أى ذكر للدمار الحالى رغم أن الفيلم تم تصويره بعد بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ولكن المأساة تلوح فى الأفق هنا، ففى وقت مبكر من الفيلم، يلتقى الشابان بصبى صغير وحيد فى الشارع يطلب مساعدتهم فى مكان يبيت به بعد أن قتلت عائلته، فيسألانه: «من أين أنت؟» فيجيبه الصبى: «غزة»، فيرفضه شاتيلا، ثم يوافق فيما بعد على مساعدته عندما يصبح مفيدا حيث تعيش خالته فى ألمانيا ويحاولان استغلال الموقف بطلب فلوس لتسهيل مهمة سفره.
من النادر أن نرى فيلما فلسطينيا يختبر حدود تعاطف الجمهور إلى هذا الحد، ففى كثير من الأحيان، عندما نلتقى بالفلسطينيين على الشاشة، أولئك الذين يعانون إما داخل فلسطين أو فى المنفى من وطنهم، يواجهون ظروفهم بكل صدق، ولكن الظلم يظل ظلما بغض النظر عن مدى تأثيره على ضحاياه، والمسارات المظلمة التى يقودهم إليها.
لم يختر شاتيلا ورضا هذا الظلام، وبالنسبة لهما فإن المخاطر كبيرة، لقد نشأ كأخوين على يد والد شاتيلا، ويحلمان بأن يخلقا ذات يوم حياة فى ألمانيا مثل تلك التى عاشها والدهما فى فلسطين ــ على أمل أن يمتلكا مقهى ذات يوم ويعيشا فى رخاء، إنهما يكذبان ويغشان ويسرقان من أجل البقاء على قيد الحياة وجمع ما يكفى من المال لتحقيق الهدف.
قدم محمود بكرى دور شاتيلا ببراعة واستحق بالفعل جائزة أحسن ممثل، والذى أثبت نفسه هنا كواحد من أكثر النجوم الشباب الواعدين فى العالم العربى، بنظرته التى ترى أنه لا مكان للأخلاق فى اليأس، لكنها لا تتفق مع وجهة نظر صديقه المقرب رضا الذى جسده بتلقائية «أرام صباح» البرىء القلب ولكن المحدود عقليًا - الذى أعاقته مشكلة المخدرات التى جعلت رحلتهم أكثر صعوبة.
انتقل مهدى فليفل فى ثانى أفلامه الروائية إلى محطة مهمة أكثر وعيا ونضجا وواقعية بعناية فائقة، ويتميز بأداءين رئيسيين قويين تم ترجمتهما بعناية إلى الشاشة من خلال عدسة متعاطفة ومنفذ بشكل جيد على كل المستويات.
نأمل أن يشاهده الجمهور فى كل مكان بمجرد انتهاء جولته فى المهرجانات، لأنه يستحق المشاهدة ليس لأنه «مهم» أو «ضرورى» وسط ظلم تاريخى، ولكن لأنه سينما عظيمة على الطراز الكلاسيكى.

خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات