نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبدالحسين شعبان، تحدث فيه عن تشابك مصير الشعبين الروسى والأوكرانى لدرجة معقدة، مما يجعل الحرب الدائرة بين البلدين شديدة المأسوية... نعرض من المقال ما يلى:
كان زبيجنيو بريجينسكى، مستشار الأمن القومى فى عهد الرئيس الأمريكى، جيمى كارتر، كتب «من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تصبح قطبا سياديا لعالم متعدد الأقطاب»، فقد كانت أوكرانيا تاريخيا جزءا من المجال الحيوى لروسيا، وترتبط معها بروابط عميقة، لكنها ثانى دولة انسلخت عن الاتحاد السوفيتى فى عام 1991، ومذ حصلت على استقلالها، أصبحت عيناها على الغرب، وسعت للانضمام إلى حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبى، الأمر الذى جعل روسيا مرتابة من وجوده على حدودها، علما بأن واشنطن كانت قدمت تعهدات لجورباتشوف بعدم انضمام دول شرق أوروبا إلى «الناتو»، بعد تفكك حلف وارسو، لكن واشنطن تنصلت من وعودها.
لهذه الأسباب يمكن تفهم قيام روسيا ببدء الحرب على أوكرانيا، لكن من يستطيع بدء الحرب، لا يمكنه تحديد موعد نهايتها، فثمة عوامل جديدة تتداخل فى مجرياتها، فهل غامر الرئيس بوتين، حين أقدم على الاعتراف بجمهورية الدومباس، والتى تبعها شن الحرب على أوكرانيا؟ وإذا كان الاعتقاد أن ضم مناطق من شرق أوكرانيا إلى روسيا، سيمر كما حصل فى ضم شبه جزيرة القرم (2014)، فإن مثل هذا الاعتقاد كان خاطئا تماما، لأن الأمر مختلف هذه المرة، فأوكرانيا تمثل بوابة روسيا إلى الغرب.
صحيح أن وضع منصات صاروخية من جانب حلف الناتو على حدود روسيا، يعتبر استفزازا كبيرا لها، وتهديدا لأمنها القومى، ومصالحها الحيوية، وهو ما حذرت منه، إلا أن عواقب شن الحرب واستمرارها كانت كارثية على الجانبين.
من يقرأ تاريخ العلاقات الأوكرانية ــ الروسية، يفاجأ بأن هذين البلدين، اللذين يدينان بالديانة المسيحية وفقا للمذهب الأرثوذكسى، ارتبطا منذ ألف عام بتشابك مصيرهما بشكل عضوى، ما يجعل الصراع اليوم أكثر مأسوية، وتعقيدا، إذْ إن أكثر من 20% من الروس والأوكران، يرتبطون بعلاقات عائلية، حتى أن بعض الأوكران يعتبرون أنفسهم روسيين، وتاريخيا، حين تكونت أول دولة فى كييف، فى العصور الوسطى، أطلقت على نفسها اسم روسيا.
فقط فى الحرب العالمية الأولى أعلن عن قيام دولة أوكرانيا المستقلة، وهكذا أصبحت حقيقة قائمة، لكنه جرى التحاقها بالاتحاد السوفيتى فى عام 1922. وباستثناء فترة قصيرة، أصيب بعض الأوكرانيين بالحيرة، فرحبوا بالنازيين كمحررين، بعد أن شن الألمان النازيون الحرب على الاتحاد السوفيتى فى 22 يونيو 1941، على أمل تحرير أنفسهم من الهيمنة الروسية والقبضة الشيوعية، ولكن حين شعروا بأن الألمان يستهدفونهم أيضا، انخرطوا فى الدفاع عن الوطن السوفيتى، حيث ساهم الجيش الأحمر فى تحريرهم فى عام 1945.
وخلال فترة الحكم السوفيتى، وسعت أوكرانيا حدودها ﺑ 165 ألف كم2، وبزيادة سكانية لهذه المناطق بنحو 11 مليون نسمة، مستفيدة من «دلال»، و«كرم» زعيمين تناوبا على قيادة الحزب والدولة، وهما نيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجينيف. ولعلنا نستذكر إقدام خروتشوف على منح شبه جزيرة القرم إليها فى عام 1956، لكن بعد 58 عاما أقدم بوتين على استعادتها، وفصلها عن أوكرانيا فى محاولة ترميم التاريخ والجغرافيا معا، على حد تعبيره، ما زاد من حساسية الأوكرانيين المرتفعة أصلا من محاولات «الترويس».
تضم أوكرانيا مجموعات ثقافية عدة، مثل البولونيين والرومانيين والهنغاريين، إضافة إلى مجموعة عرقية روسية كبيرة، وهو ما حاول بوتين استثماره بذريعة «أكرنتهم»، والتمييز ضدهم بفرض اللغة الأوكرانية عليهم، بما فى ذلك فى الدونباس، وشبه جزيرة القرم، خصوصا بتقربها من الغرب، وإدارة ظهرها للعلاقات التاريخية الأوكرانية ــ الروسية.
لقد أنهكت واشنطن موسكو خلال الحرب الباردة بسباق التسلح، خصوصا ببرنامج حرب النجوم، فى عهد الرئيس رونالد ريجان، والآن تسعى لتوريطها فى أفغانستان جديدة، وشعارها التضحية بآخر أوكرانى، كما كان شعارها التضحية بآخر أفغانى فى مواجهة السوفيت، ردا على هزيمة فيتنام.
كل هذه الأوضاع عبر عنها، بحزن وألم، الكاتب والدبلوماسى السابق الروسى ــ الأوكرانى، فلاديمير فيدوروفسكى، حين كتب يقول «هذه الحرب تمزقنى، كانت والدتى روسية، ووالدى بطلا أوكرانيا فى الحرب العالمية الثانية...»، ولم يكتفِ بذلك، بل حذر من القطيعة النهائية بين روسيا والغرب، ومدى خطورة حصولها، فى كتابه الموسوم «بوتين ــ أوكرانيا: الأوجه الخفية»، الصادر فى بيروت، العام الماضى.
النص الأصلي