الفنون الجميلة.. منظور جديد بعد الأزمة - أيمن النحراوى - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 8:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الفنون الجميلة.. منظور جديد بعد الأزمة

نشر فى : الإثنين 29 مايو 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الإثنين 29 مايو 2023 - 8:25 م
مصر هى موطن الفنون الجميلة ومهدها منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، يشهد على ذلك مئات الآلاف من التماثيل والرسوم والأعمال الفنية المبدعة التى قدمها أجدادنا للحضارة الإنسانية وتعلم منها العالم، وبما قدمته مصر فى العصر الحديث من فنانين عظماء مثل محمود مختار ومحمود سعيد ويوسف كامل وراغب عياد وأحمد فؤاد يعقوب وسيف وانلى وغيرهم.
ويمكن لأى منا أن يذهب إلى عمق مصر فى الصعيد ليشهد إبداع الأحفاد فى صناعة التماثيل ومشغولات الألباستر واللوحات والجداريات مثلما كان يبدع أجدادهم منذ آلاف السنين، أو يذهب إلى خان الخليلى ليشهد صناعات الأرابيسك والمنتجات الفنية لقاهرة المعز، أو يذهب إلى مركز مثل رمسيس واصف للفنون حيث تنتج سيدات فنانات مصريات سجادا ينطق الفن من جنباته ليضاهى مستوى اللوحات العالمية.
كل هؤلاء الفنانين المصريين الحقيقيين لم يلجأوا للنقل أو الاقتباس أو النسخ واللصق، بل كانوا أمناء مخلصين فى فنهم ورسالتهم وتتبعوا مواهبهم وقدراتهم الكامنة وقاموا على تنميتها وتطويرها، ووصل الكثيرون منهم إلى العالمية بمهارة واقتدار، ويمكن أن يصل منهم أكثر وأكثر لو صقلت موهبتهم بالعلم وتعززت بالتكنولوجيا، فيصبحون مصدرا للدخل والثراء لأنفسهم وبلدهم.
• • •
للأسف نحن نعيش اليوم ونشهد ما لا يتفق مع كل ما سبق، وما لا يليق باسم مصر وتاريخها وسمعتها، فالفضيحة التى تفجرت على أثر النزاع بين إحدى المصممات المصريات وفنان روسى، هى مسألة لا يمكن النظر إليها بصورة جزئية، أو كحادث فردى، لأن تداعيات ذلك النزاع ألقت بظلال قاتمة على عالم الفنون والإبداع فى مصر، وأساءت إلى الفن المصرى إساءة بالغة.
الفنون الجميلة والتطبيقية هى جزء من روح المجتمع ومكون رئيسى من مكونات هويته وثقافته، ويجب أن يتسم من يعمل بها بالإبداع والابتكار فضلا عن الصدق والشفافية والنزاهة، هذا هو الفنان الحقيقى.
لكن النقيض لكل ذلك هو ما شهدناه فى تلك الأزمة، فالفنان الروسى أقام الدنيا حفاظا على حقوق الملكية الفكرية له، وتوجه إلى الولايات المتحدة ليقاضى المدعى عليها، وبات الأمر برمته يتجه نحو فضيحة عالمية مؤسفة.
والتساؤل الذى يطرح نفسه هنا: هل عقمت مصر عن إنجاب فنانين ومبدعين؟! والإجابة هى لا قاطعة، لأن لدينا الفنانين والمبدعين بعشرات الآلاف، بل ومئات الآلاف، لكن المنظومة المعقدة هى التى تعوق معظمهم عن الوصول إلى المستوى والمكانة التى هم جديرون بها.
أين هى مواد الفنون فى مراحل التعليم المختلفة؟! ما وزنها وأهميتها فى الهيكل الإجمالى للدرجات؟! كيف يمكن إيجاد منظومة حقيقية وفعالة لانتقاء البراعم الصغيرة الموهوبة فى المراحل الدراسية والتركيز عليها وتنميتها والارتقاء بقدراتها ومواهبها؟! كيف يمكن أن نقدم لهؤلاء أدوات ومستلزمات الرسم والنحت والإبداع والابتكار بأسعار مناسبة، فى وقت يستورد فيه معظم تلك المستلزمات من الخارج وتباع لهم بتكلفة باهظة؟! أين مراكز الفنون والقدرات والمهارات فى عشرات الآلاف من قرى الريف المصرى والصعيد؟!
ليس الأمر قاصرا على ذلك، فهناك المعادلة الصعبة التى تربط دخول كليتى الفنون الجميلة والتطبيقية بتحقيق مجموع معين يحدده مكتب تنسيق الجامعات بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة، واجتياز اختبار صورى يسمى اختبار القدرات كمتطلب للالتحاق.
وهنا يبرز سؤال هام، ماذا لو لم يحقق الطالب أو الطالبة الموهوبة المجموع المطلوب؟! الإجابة أن موهبته الفنية ستدفن إلى الأبد، وسيلتحق مجبرا بكلية أخرى لا تتفق مع مواهبه وقدراته، وقد يتحول الأمر إلى عقدة نفسية تلازمه طوال حياته، مع فشل فى حياته الشخصية والمهنية، فضلا عن خسارة المجتمع لفنان أو فنانة قد تكون موهبة عظيمة.
الالتحاق بكليات الفنون الجميلة والتطبيقية يجب أن يكون بالمجموع المطلق للنجاح فى الثانوية العامة أو الدبلومات، ويجب أن يكون باختبارات تقيس القدرات الفنية الحقيقية للمتقدم للكلية، فليس مجموع الثانوية العامة هو الذى يصنع الشخص الفنان، بل إن تلك الثانوية العامة باتت هى المقبرة لآلاف الفنانين والموهوبين الواعدين المحتملين، الذين لم يتمكنوا من تحقيق المجموع المطلوب، وفى ذات الوقت فتحت الطريق لمن لا يستحقه لمجرد أنه حقق المجموع المطلوب دون موهبة أو إبداع.
السؤال أيضا، كم عدد كليات الفنون الجميلة والتطبيقية ومراكز الإبداع وقصور الثقافة ومعاهد الدراسات الحرة فى الفنون الجميلة اللازمة لأجيالنا القادمة؟، ولا سيما أننا شعب من الشباب، فمن هم تحت عمر 25 سنة يبلغون قرابة 45 مليون إنسان، وبنظرية الاحتمالات لو أن إنسانا فقط من كل 100 من هؤلاء لديه موهبة فنية، فنحن بصدد 450 ألف فنان محتمل.
ما نحن بشأنه لا يتعلق بالمصريين الموهوبين فى مرحلة الصقل والتأسيس، بل يتعداها إلى مرحلة النضج حيث يخرج الإنسان الموهوب ليواجه العالم، وهى مرحلة تبدأ فى كليتى الفنون الجميلة والتطبيقية بإعداد مشروع التخرج، وهو حدث هام يعبر فيه الخريج أو الخريجة عن القدرات الكامنة والمواهب، من خلال صياغة العلم والفن والموهبة فى مشروع التخرج.
هنا أيضا سؤال هام يطرح نفسه، أين هى عشرات الآلاف من مشروعات التخرج التى قدمها طلاب وطالبات الفنون الجميلة والتطبيقية طوال العقود الماضية؟ هل أعدت لتحقق ارتقاء فى الذوق العام للمجتمع أو لتحقق إضافة إيجابية فيه؟ هل أعدت جداريات أو تماثيل أو أعمالا فنية أو لوحات تصويرية فى الميادين والشوارع والمقرات والأماكن المختلفة فى إطار مشروعات التخرج؟ أم كان مصيرها مخزن الكلية أو سطح منزل الخريج/الخريجة؟
هل يوجد بالفعل جسر يربط بين كليات الفنون والمجتمع؟ أم أن هذه الكليات تقبع خلف أسوار الجامعات منعزلة عن المجتمع؟ هل تؤثر كليات الفنون إيجابيا فى المجتمع بتقديم الروائع الفنية لخريجيها وخريجاتها، وبث القيم الفنية والتذوق الراقى لأفراد المجتمع؟ هل تفتح كليات الفنون أبوابها لأفراد المجتمع بتنظيم المعارض والندوات وورش العمل للجمهور؟ وتقديم الدورات التدريبية الحرة للأطفال والشباب بتكلفة اقتصادية؟
• • •
من جهة أخرى، الكلية والنقابة يجب أن تكونا راعيتين ومنظمتين وداعمتين لأبنائهما وبناتهما فلا تتركانهم نهبا للشركات والمكاتب الاستشارية الجشعة التى تستولى على مواهبهم وأعمالهم بأبخس الأثمان وأقل الرواتب لتوجهها لأعمال تجارية تحقق من ورائها الملايين، أو ينسبها صاحب الشركة/المكتب لنفسه، ويضع الفنان الحقيقى فى الظل مجهولا محسورا.
مصر التى صنعت الفنون والإبداع والحضارة تتبرأ من كل من يسلك سلوكا غير أمين فى عمله، فالفن والإبداع يستحيل أن يلتقيا مع الغش والخداع.
أيمن النحراوى  خبير اقتصاد النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات
التعليقات