كنا نقرأ فى الصغر عن علماء عباقرة غيروا وجه العالم بأفكارهم واكتشافاتهم وحدهم دون مساعدة من أحد، كنا نقرأ عن أينشتاين ونيوتن ودافنشى ونتخيل أنفسنا مكانهم: العالم العبقرى الذى يجلس وحده يفكر ثم يخرج باكتشاف يهز أرجاء العالم وتنهال عليه الأموال والجوائز والتكريمات، الحلم ما زال يسيطر على أفكار الجيل الجديد من الباحثين، لكن هذا التأثير سلبى للأسف، فى هذا المقال نناقش مساوئ فكرة العبقرى الأوحد الذى يعمل وحده دون تعاون مع أحد ودون إمكانيات كبيرة. هناك عدة أفكار يجب أن تكون واضحة فى هذا المقام.
أولا الاسم المشهور فى التاريخ والمقترن باختراع ما ليس بالضرورة هو اسم الشخص صاحب فكرة الاختراع، ولكنه فى الغالب الأعم يكون اسم من أدخل تحسينا على الفكرة الأساسية وجعلها اقتصادية وتصلح للاستخدام العام بين الناس، لنأخذ بعض الأمثلة: جاليليو والمشهور بأنه مخترع التليسكوب قد أخذ فكرته من صانع عدسات ألمانى ــ هولندى باسم هانز ليبرشاى، بل إن ليبرشاى قد حاول الحصول على براءة اختراع نسخة بدائية من التليسكوب سنة 1608، ما فعله جاليليو هو تطوير فكرة التليسكوب واستخدامه للأغراض العلمية. جيمس واط المعروف باختراع المحرك البخارى لم يكن ما قدمه سوى تحسين المحرك الذى اخترعه توماس سيفرى قبله بستين عاما ثم طوره توماس نيوكومن قبل جيمس واط بنصف قرن.
قدماء المصريين هم أول من ابتكروا فكرة رفع الأشياء عن طريق الحبال، ثم تم تطوير الفكرة باستخدام الحبال مع محركات بخارية أولا ثم كهربائية فيما بعد، لكن إليشا أوتيس هو من طور الفكرة بزيادة معدلات الأمان فى المصاعد وبالتالى تم استخدامها على مستوى واسع وشركة أوتيس من أكبر شركات المصاعد حتى يومنا هذا. توماس إديسون والذى يتخذه الكثيرون مثلا أعلى فى العبقرية والدأب نظرا للعدد الكبير من براءات الاختراع ومن أهمها المصباح الكهربائى، المثير فى الأمر أن إديسون لم يخترع المصباح الكهربائى والفكرة ليست فكرته أصلا، ولكن فكرة الكيميائى الإنجليزى السير هامفرى ديفى، ما فعله إديسون أنه طوّر الفكرة حتى تصبح صالحة للاستخدام العام بين الناس. نستطيع أن نقول إن تاريخ تسجيل براءة الاختراع هو الدليل الذى يستخدمه الكثيرون للدلالة على من اخترع شيئا ما، وهذا خطأ كبير لأن تسجيل براءة اختراع قد يكون حدث نتيجة سرعة شخص فى تسجيل الفكرة وليس لأنه الأول وقد يكون نتيجة دسائس وحيل قانونية وغير قانونية لإقصاء الخصوم مثلما نجد فى قصة حياة العبقرى الصربى نيكولا تسلا. إذا هل فكرة مكاتب براءات الاختراع فكرة سيئة؟ هذا يأخذنا للنقطة الثانية..
هناك عدة دراسات فى علم الاجتماع درست هذا السؤال ووجدت أن وجود نظام قوى لتسجيل براءات الاختراع هو من العوامل المؤثرة لجعل الشركات تنفق على البحث العلمى لأنها ستحصل على عائد من ذلك وأنا أعتقد أن ذلك السبب قد ينسحب على الأفراد كذلك الذين يرغبون فى العائد المادى والمعنوى، لكن فى الوقت نفسه هناك دراسات أخرى ترى براءات الاختراع تدفع الفرق البحثية والأفراد إلى إخفاء أعمالهم وعدم التعاون مع بعضهم البعض مما يؤثر سلبا على التطور العلمى والتكنولوجى، وهذه هى النقطة الهامة. نحن فى عصر العلم فيه أصبح معقدا ويحتاج تكاتفا وتعاونا من باحثين من مختلف التخصصات، العمل وحدك فى الخفاء فى عصرنا هذا لن يصل بك فى أغلب الظن إلى شىء ذى بال، التعاون هو الأساس وعدم التفكير فى المجد قبل التفكير فى العلم.
النقطة الثالثة أن نعرف أن أى اختراع أو اكتشاف هو محصلة اختراعات واكتشافات صغيرة الواحدة تلو الأخرى، لكننا لا نرى إلا من وضع اللبنة الأخيرة وهذا خطأ جسيم يجب أن يتداركه مؤرخو العلم فى عصرنا حتى يعلم الجيل الجديد من العلماء الشباب أن مجرد وضع لبنة فى سلسلة طويلة من الاكتشافات هو عمل عظيم فى حد ذاته لأن بدون هذه اللبنة لن تكتمل السلسلة.
النقطة الرابعة هى أن تاريخ العلم والتكنولوجيا فى العالم لا يتوقف على أحد، لا نستطيع أن نقول إن لولا فلان لتأخر العلم نصف قرن مثلا، لأن تاريخ الاكتشافات العلمية توضح أن نفس الاكتشاف فى الغالب يصل إليه عدة باحثون فى الوقت نفسه لكن من يشتهر منهم هو من ينشر بحثه أولا، معنى هذا أنه مهما بلغ علمك فعليك بالتواضع لأنك لست بالأهمية التى تظنها فى نفسك.
أرجو أن تكون هذه النقاط الأربعة نصب أعين الجيل الجديد من الباحثين حتى ينفعوا العالم بعلمهم وأن ينسوا أسطورة العبقرى الأوحد هذه.