قبل سنوات بعيدة لا أذكر عددها الآن، قرأت موضوعا على غلاف مجلة العربى الكويتية العريقة حول مهرجان أصيلة الثقافى فى المغرب، وتأملت كثيرا فى صور تجمع بين الطيب صالح وأحمد عبدالمعطى حجازى وأميل حبيبى وبلند الحيدرى وجورج البهجورى وآخرين من رموز الإبداع العربى والعالمى.
الأمر المؤكد أننى حلمت وقتها بزيارة المدينة وتمنيت لو أتيحت أمامى فرصة حضور مهرجانها العريق. زرت المدينة مع نفسى قبل سبع سنوات، وطفت شوارعها وقضيت فيها عدة ساعات تركت فى روحى أعمق الأثر، كنت أناجى النوارس عند قلعتها، متمنيا من كل قلبى لو رجعت لها من جديد.
وخلال مشاركتى فى الدورة الأخيرة لمعرض الرباط الدولى للكتاب، دعانى أحد أصدقائى من كبار مبدعى المغرب لزيارة الدكتور محمد بن عيسى، الأمين العام لمنتدى أصيلة، فى منزله ونعمت فى الجلسة بصحبته الطيبة مع نفر من أصدقائه من كبار المسئولين والمفكرين من أهل المغرب، لفتتنى بساطة الرجل ومتعة حديثه الساحر وعمق معرفته بالثقافة المصرية لدرجة لم أصدق معها أننى فى حضرة عمدة المدينة التى تحولت إلى أسطورة من أساطير الجمال وإلى درس فى التنمية الثقافية.
أصبحت أصيلة عبر سنوات ظاهرة إبداعية فريدة صعدت بصانعها إلى مقاعد وزارية مهمة، إذ تولى قبل سنوات وزارتى الثقافة والخارجية، لكنه ظل محتفظا بموقعه فيها كعمدة أصيلة ولم يبدله بأى موقع آخر.
تستحق تجربة محمد بن عيسى تأملا أعمق فى مكوناتها، والبحث فى أسباب نجاحها لكن بطريقة تنظر بموضوعية إلى حجم الدعم الكبير الذى ناله من المؤسسة الملكية فى المغرب سواء كان دعما ماديا ومعنويا. لكن هذا الدعم مهما كان حجمه لا يلغى دور بن عيسى الخلاق فى ابتكار الفكرة ورعايتها منذ أن تبلورت فى رأسه إلى أن حولها إلى مهرجان بلغ عامه الـ45 دون أن يفقد سحره وتأثيره رغم تقلص الميزانيات وتراجع حماس الجهات الداعمة للثقافة بعد جائحة كورونا.
إذا كنا نشبه المدن بالبشر؛ فإننا نستطيع القول بأن المهرجان يعيش نضجا يماثل الطاقة التى يملكها البشر وهم يعبرون الأربعين. صحيح أننا جميعا نعرف تراجع تأثير النخب الإبداعية والفكرية والسياسية الكبرى على الصعيدين العربى والعالمى وندرك أن الأسماء المتاحة أقل توهجا من الأسماء التى توافرت فى الماضى الموصوف بعصر صراع الأيديولوجيات.
رغم ذلك لا تزال أصيلة زاهية بفكرتها، فخورة بما تحقق لها من نجاح دفع ألد خصومها الذين حاربوها عند انطلاقها وطوال مسيرتها إلى مراجعة مواقفهم وإدراك سوء التقدير الذى تكون بسبب الصراع الحزبى فى المغرب وحرمهم من الانخراط فى التجربة.
حققت أصيلة المعادلة الصعبة فى التعاون بين هيئة مدنية منتخبة تمثل البلديات وهيئات رسمية تمثل الدولة القادرة على تقديم صور الدعم والمتابعة دون التعلل بالبيروقراطية، كما تجذر ارتباط المدينة بواقعها والعمل المستمر على تحسين أحوال الناس من أهلها حيث تبذل أقصى الجهود فى العمل اليومى مع الأطفال لشراء المستقبل ويجرى كل ذلك فى ظل احترام لافت لتراث المدينة وهويتها المعمارية كمدينة بحرية ذات طبقات تاريخية متنوعة، ولا يجوز العبث بها لتطغى هوية على الأخرى.
وبفضل أوجه التعاون المختلفة مع هيئات مختلفة داخل المغرب وخارجه توفر لمهرجان أصيلة ما لم يتوفر لغيره، وأكد إمكانية أن تمثل الثقافة رافدا إبداعيا وتنمويا ومصدرا من مصادر الجذب السياحى على نحو ساهم فى تنمية المجتمع المحلى وضمن تحسين البنية التحتية فى المدينة لتخرج من قائمة المدن المهمشة وتصبح واحدة من أهم الوجهات السياحية فى العالم.
وأوجد منتدى أصيلة أفقا للحوار الفكرى والإبداعى لا يقل فى تأثيره عن النماذج المماثلة فى العالم والتى ترسخت لأنها ابنة المركزية الغربية مثل منتدى دافوس أو سالزبورج سمينار أو حتى منتدى ريمينى فى إيطاليا، وبين كل تلك التجارب تميز بأنه مهرجان حر مفتوح يرفع من سقف الحوار والنقاشات متحررا من القيود التى تقيد عمل الآخرين ويمكن لكل العابرين فى المدينة الدخول إلى قاعاته والمشاركة فيه بكافة صور المشاركة.
وأشهد أن الجلسات التى شهدتها طوال الأسبوع الماضى كانت تشبه المباريات المفتوحة التى يحضرها جمهور يشجع اللعبة الحلوة، تكاملت الرؤى والأفكار الخلاقة فى جلسات أدارها بحنكة ودبلوماسية محمد بن عيسى دون أن يفقد ابتسامته أو يخلط بين الأدوار المختلفة التى يؤديها
إذ يحترف بن عيسى علاج المسافة، المسافة بين المثقف والسلطة، بين حرية الفنان وقيود المسئول، يراهن على فضيلة الحوار ويلعب فى مساحة حررها الخيال من كل قيد.
أغادر أصيلة مغمورا بجمالها وفى عقلى درس عمدتها الذى لازمته فى جلسة صفاء قدم فيها زميلا يرأس تحرير صحيفة عربية مؤثرة إلى سياسى عربى نجم فأكد له أن الصحيفة التى ولدت فى خضم التغيرات تستحق أن تقرأ وأنه مهما اختلف مع سياساتها لا يرضى أن يحرم نفسه منها لأنها تجدد أفكاره، وهذا هو درس أصيلة القائم على احترام التنوع وإدراك قوة الاختلاف.