المدن تشبه ساكنيها - خولة مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 1 أبريل 2025 10:00 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

المدن تشبه ساكنيها

نشر فى : الأحد 30 مارس 2025 - 5:05 م | آخر تحديث : الأحد 30 مارس 2025 - 5:05 م

تشيخ المدن كما البشر أو البنى آدمين، بعضها يشيخ برقى وتبقى آثار الجمال هنا وهناك، وأخرى تتعثر فى شيخوختها فتهرم شوارعها وتتحول مبانيها إلى بقايا بيوت كما وأنها سحبت منها الحياة فبقى الجسد دون روح.
• • •
بقيت كثير من المدن تتباهى بتاريخها الذى كلما شاخ ازداد رونقًا وجذبًا للأنظار، خاصة أن كان هناك بعض الحكماء فى إدارتها فيصرون على أن الأسمنت والمبانى الزجاجية الشاهقة لا تصنع جمالًا خاصًا فلا يلمسون القديم إلا ببعض الترميم الذى يبقى على الحياة به ويزيده جمالًا. جمالًا يتراكم على مر الزمن فيبرز فى حلة وكأنه تعتق فى حلاوته.. فتصبح للمبانى عناوين وتواريخ، ويكتب على واجهتها يافطات تحمل أسماء لعلماء وباحثين وشعراء وكُتاب وفنانين ومطربين وراقصى الباليه الراقى وغيرهم من الذين يساهمون فى تسجيل تاريخ لكل شارع وحى ومدينة.
• • •
كنت قد عرفت لندن، كمعظم أهل الخليج، فى مراحل مبكرة وجربت مدارسها الصيفية، وبعدها كانت معظم الزيارات للتمتع فيما كنت أتصوره ما يزيد من رونقها. عراقة فى المبانى حتى إن البرلمان يصوت على السماح بهدم المبنى أو الإبقاء عليه فلا يحصل أن يهدم مبنى قديم بتاريخ دون استشارة المختصين وربما كل الشعب، وهذا بالطبع أمر لا نعرفه نحن فى مدننا العربية.
• • •
عرفت متاحف لندن ومسارحها ككثير من زوارها فكان الانبهار بمتحف التاريخ ومتحف العلوم وغيرهما، ومسارح تضج بصخب عروضها بفرق محلية وأخرى زائرة وأشهرها الفرقة الروسية البولشوى قبل أن تقوم بريطانيا وكل أوروبا بحربهم على كل ما هو روسى حتى فرق الرياضة والموسيقيين والفنانين، بل كل الثقافة، فى خطوة بدت فى حينها مثيرة للنقاش والجدل حتى جاء السابع من أكتوبر فانكشف كل المخفى وتعرت الحكومات بل الأنظمة. كان المساء فى سوهو وفى الأحياء التى تعج بها المسارح مختلفًا، حيث يصطف عشاق الفن الحقيقى بملابسهم الأنيقة وما أن ينتهى العرض حتى يقف الجمهور ليحيى الفنانين، ويمضى فى استكمال السهرة فى أحد المطاعم القريبة. أجواء كثير ما تعرفها المدن الأوروبية ربما أكثر من غيرها، لكنها هى الأخرى بدأت تتحول كما كل شىء آخر فى هذه المدينة وغيرها.
• • •
لندن لم تعد كما كانت، بل غزتها «الحداثة» العمرانية المشوهة فكثرت المجمعات والعمارات الشاهقة وفى معظمها من الزجاج المتناقض اضطرادا مع مبانيها التاريخية. وازدحمت بكل ما هو لا يمثل أى شىء يشبه تلك التى كانت. أما متاحفها فكتب الباحثون مؤخرًا عن كونها مخازن لسرقات المستعمر القديم ولا تمثل تاريخ هذه الدول إلا إذا أردنا أن ندون تاريخ الاستعمار القديم الذى لا يزال يحاول مد أذرعه لمستعمراته وكأنها ملكية خاصة جدا مهما تغير الحكام وأنظمة الحكم! فقد نشرت صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية أن المتحف البريطانى ومتحف فيكتوريا وألبرت قاموا بإعارة 32 قطعة من الكنوز الذهبية والفضية التى نهبتها القوات البريطانية من مملكة أشانتى فى القرن التاسع عشر. حيث ستعرض فى متحف فى كوماسى بجنوب غانا لمدة ثلاث سنوات. أما عن المقتنيات الأخرى بالمتحف من آثار فرعونية ويونانية فكلها نماذج لسرقات المستعمرين. ألم نسمع عن كم الآثار التى سرقها الجنود الأمريكيون من العراق بعد احتلالها فى عام 2003، حتى أن أحد الجنود وضعها فى منزله ضمن «الديكور»؟! وتأتى عودة هذه القطع إلى البلد الأصل فى ظل حملة وضغوط على المتاحف والمؤسسات الأوروبية والأمريكية لإعادة القطع الفنية والتاريخية «المسروقة» فى ظل حكم الاستعمار السابق.
• • •
إذن سقطت المتاحف من قائمة الأماكن التى تستحق الزيارة فكيف لنا أن نساهم فى زيادة مكاسب المستعمر السارق عبر المداخيل التى تساهم فى الاقتصاد البريطانى «العجوز» كما الإمبراطورية؟. أما المسارح فقد أثار مدير «المتروبوليتان» بنيويورك، بيتر غيلب، فى لقاء مع وكالة الصحافة الفرنسية، هذا الأمر وعلق بأن التبادل الثقافى لم ينقطع فى أوج الحرب الباردة، أما الآن فهذه حرب حقيقية. وهذا لا يعنى أن المسارح فى لندن قد أغلقت أو وهنت، ولكنه يعنى أن أبواب الانفتاح التى هى أوكسجين الثقافة الحقيقية قد أغلقت ما يؤثر حتمًا على نوعية المادة المقدمة.
• • •
ماذا بقى من لندن؟ شارع أوكسفورد الشهير الذى تدهور على مر السنين حتى تحول إلى شبيه بالشوارع المجاورة من محلات تبيع سلعًا سياحية رخصية ومعظم زواره من الدول العربية التى لا يزال أبناؤها يعيدون يومياتهم فى شوارعها دون تغيير فى تفصيل واحد وكأنهم لم ينتقلوا من مدينتهم تلك! أو لم يسمعوا عن مقولة شمس التبريزى «الأهم من سفر المكان سفر الوجدان بداخلك، فما نفع تبديل الأماكن وأنت أنت». أما نايتس برج فهو الآخر «تعرب» بعض الشىء بعد شراء المحلات الكبرى من قبل مستثمرين عرب على تنوعاتهم وافتتاح محلات غريبة عن تاريخ هذا الشارع مثل «كرك وشباتى» وغيرهما.
• • •
شىء ما طرأ على هذه المدن وليست هى لندن وحدها، بل كثير من المدن الأوروبية إلا القليل منها الذى لا يزال بعضهم يحاول أن يبقى على رونق وتاريخ كان دون تشوهات بحكم أمزجة أثرياء السياح. فى دردشة مع أحد سائقى التاكسى اللندنى الأسود الشهير، قال ذاك الإنجليزى وفى نبرة صوته كثير من الشجن، إن لندن ولا كل بريطانيا لم تعد كما كانت. ربما كان يعبر عن بعض المتبقى من الفكر الإنجليزى العنصرى أو ربما هو انعكاس لكثير من الأوروبيين الخائفين على فقدان ما تبقى لهم من حضارة تهدم اليوم تحت أقدام اليمين فى بريطانيا وأوروبا والعنصرية وكره الآخر حيث حقوق الإنسان والحريات لهم فقط، ربما وربما هى مزيج من الاثنين حنين وعنصرية الرجل الأبيض! أو ربما هى غزة التى فضحت الجميع وعرت ما كان يسمى بالأنظمة المتحضرة والديمقراطية!

كاتبة بحرينية

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات