يكاد العمل السياسى أن يندثر فى كامل المنطقة العربية مشرقا ومغربا، مخليا الساحة أمام قطبين محددين: الجيش والتنظيمات الإسلامية، بالمتطرف منها والمعتدل والبين بين.
والحقيقة المحزنة أنه لم يسلم من تراث العمل الوطنى والقومى وكذلك التقدمى إلا هياكل مفرغة لتنظيمات استهلكتها السلطة، مع أنها لم تكن فى أى يوم مصدر القرار فى أى سلطة، وإن كانت معظم القرارات قد صدرت باسمها وبأختامها.
لقد غابت الأحزاب «التاريخية» عن الفعل وإن ظلت لافتاتها وشعاراتها مرفوعة فوق بعض الأبنية التى شكلت عناوين لمرحلة سابقة امتدت لنصف قرن أو يزيد، سواء بدور لها فعلى أو بلافتات لها تغطى وتموه أصحاب القرار.
فجأة، اختفت حقبة كاملة من التاريخ السياسى العربى مخلفة ذكريات سوداء عن أحزاب طليعية ومنظمات وهيئات لعبت دورا رياديا فى الفكر والدعوة، مؤكدة جدارة الإنسان العربى فى أن يصنع غده بإرادته وبقدراته بعد التحرر من التركة الثقيلة التى خلفها الاستعمار بعد دهر تحكمه بالقرار العربى.
•••
نبدأ من لبنان الذى كان المنبر والندوة والمختبر و «الساحة» المفتوحة أمام الحراك السياسى، بالدعوة كتابة أو تظاهرا، بالأحزاب والتنظيمات التى شكل العديد منها امتدادا للمركز الرئيسى خارجه: الحزب الشيوعى، الحزب السورى القومى الاجتماعى، حزب البعث العربى الاشتراكى فضلا عن عشرات التنظيمات التى نشأت أو أنشئت فى ظلال التجربة الناصرية، أو تلك التى استولدت بالرغبة أو بالتمنى فى ظل تجربة تمركز حركة الكفاح المسلح الفلسطينى فى لبنان. لم يتبق الآن إلا الأحزاب والتنظيمات الطائفية والمذهبية.
فى سوريا تبخرت أسطورة الحزب الحاكم، منذ زمن طويل، وتحول حزب البعث العربى الاشتراكى إلى ستارة لحكم «الأخ الرفيق القائد»، المتحدر غالبا من الجيش. وذلك بدءا من العام 1963 وبعد سنتين من انفراط عقد الوحدة بين مصر وسوريا فى الجمهورية العربية المتحدة تحت قيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
وابتداء من العام 1970 حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد سوريا لمدة ثلاثين سنة متصلة، محافظا باستمرار على «القيادة القومية» التى كانت تواكد ــ نظريا ــ الهوية الجامعة للحزب عربيا، وعلى «القيادة القطرية» التى كان يفترض أن تكون رأس الحكم، مع جبهة شكلية جمعت إلى هذا الحزب بعض بقايا الأحزاب القومية والتقدمية (الشيوعى الذى صار أحزابا، والقومى الذى تشقق فرقا..).
•••
أما فى العراق الذى «استولى» الحزب على الحكم بثورة 8 شباط 1963، ثم فقده ليستعيده ثانية فى تموز ــ يوليو ــ 1968، فقد كان صدام حسين الحاكم الفعلى للعراق حتى الاجتياح الأمريكى وإسقاطه ثم إعدامه بطريقة مهينة تقصد منها أن تثير الفتنة فى صيف العام 2003.
كانت اللافتة للحزب والحكم لصدام بمساعدة جهاز المخابرات... مع ملاحظة أن كل رئيس قائد كان يعتمد «جهازا خاصا» داخل المخابرات يرتبط به مباشرة ويأتمر بأمره من دون الرجوع إلى أية جهة أخرى.
وفى هاتين الدولتين المشرقيتين كانت المخابرات (ومعها المباحث) هى حزب الحاكم الفرد، ترجع إليه فى كل صغيرة وكبيرة وتنفذ تعليماته بدقة... بينما الحكومة بوزاراتها المختلفة وإداراتها المدنية جهاز تنفيذ لا شراكة له بل ولا علاقة له بمركز القرار المفرد.
حتى فى اليمن الجنوبى (الذى اصطنعت له دولة ذات يوم تحت قيادة حزب أوحد يتحدر نظريا من حركة القوميين العرب ثم انتهى ماركسيا لينينيا تابعا لموسكو) انتهت التجربة بمذبحة هائلة، ثم حسم الجيش الخيار، فعاد الجنوب إلى أحضان اليمن الأم عبر حربين... ومنذ تلك اللحظة سيطر الجيش على السلطة شمالا ثم فى الشمال والجنوب معا، وحكم الفريق على عبدالله صالح لمدة ثلث قرن أو يزيد بالجيش والقبائل معا، وإن تحت لافتة حزب سياسى، تاركا لأحزاب المعارضة هامشا من الحركة، حتى أسقطته انتفاضة شعبية ومعززة بدعم خارجى مفتوح لعبت فيها القبائل والريالات دورا حاسما.. وما زال الصراع مفتوحا وما زال دور الجيش مؤكدا.
أما فى الضفة الأخرى من الوطن العربى، فقد لعبت الأحزاب السياسية فى المغرب لمرحلة طويلة فى الملعب الملكى. لكن تجاربها فى السلطة المحكومة بقرار الملك ــ أمير المؤمنين ــ استهلكتها.
وأما فى الجزائر فقد كان الجيش هو الملك وهو القائد وهو الرئيس دائما، سواء من خلف ستار أم عبر واحد من جنرالاته مباشرة.. وها هو ما زال الحاكم فعلا، ولا يغير من هذه الحقيقة أن يستبقى عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا لدورة رابعة برغم مرضه الذى يقعده. ولقد كانت صورته وصندوق الاقتراع تحمل إليه، وبعض وجهه مغطى بالكمامة، بينما ثمة من يسند يده وهى ترمى ورقة الفوز بالرئاسة مجددا مثيرة للشفقة ومشاعر أخرى.
•••
فأما مصر فلم يكن ثمة حزب إلا الجيش منذ ثورة 23 يوليو 1952. كانت الأحزاب السياسية التقليدية، وأبرزها «الوفد» قد خسرت صدقيتها وحتى شرعيتها الشعبية قبل سنوات طويلة، فى حين كان الإخوان المسلمون يدارون أن يظهروا كحزب سياسى، برغم استقطابهم لجمهور واسع من المناصرين بشعار الإسلام. ولقد فشلت الثورة فى بناء «حزبها»، برغم شعبيتها الأكيدة، وظلت شخصية «القائد» هى الطاغية.
ولم ينجح «تحديث الحزب» أو تعزيزه بتلك النخبة التى اجتمعت فى «التنظيم الطليعى» فى التقدم ليكون المرجعية السياسية، وإن استطاعت أن تلعب دورا تنويريا يجمل صورة الحكم ويضفى عليه سمات من الحداثة الفكرية. ظل ظل الجيش قائما خلف «الريس»، حتى إذا رحل عبدالناصر وجاء أنور السادات إلى السلطة لم يواجه مشكلة فى الخلاص من التنظيم الأم، الاتحاد الاشتراكى، ثم من التنظيم الطليعى، تحت شعار «أن مصر كلها عيلة واحدة وعلينا أن نتحلى بأخلاق القرية والعيلة الواحدة»... وهكذا بدل فى رأس التنظيم وفى اسمه وتركه واجهة شكلية ودائرة تصديق على قراراته، واثقا من أنها لن ترفض حتى الخروج على المقدس من الأهداف والشعارات، مثل زيارة العدو الإسرائيلى والخطابة أمام الكنيست ثم عقد سلسلة من المعاهدات توجت باتفاق كامب ديفيد.
المهم أن الأحزاب السياسية قد غادرت المسرح منذ أمد طويل، ولم يتبق منها إلا حركة الإخوان المسلمين، سرية فى غالب الأقطار العربية معظم الوقت، وعلنية مؤخرا.
إذن بقى الجيش فى موقع السلطة والإخوان فى موقف من يدارى السلطة وينافقها من دون أن يلتحق بها تماما، كما كان الحال فى عهد السادات، بداية، ثم فى عهد مبارك.
فلما نجح الإخوان فى القفز إلى سدة الحكم فى مصادفة قدرية قبل عامين تقريبا كان همهم الأول «تحييد» الجيش تمهيدا لإحكام السيطرة عليه.. لكن التجربة لم تنجح لأسباب معروفة، وكانت النتيجة أن تحرك الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح السيسى، فى 3 يوليو 2013 لينهى المصادفة القدرية ويعود إلى موقع القرار فى السلطة الجديدة فى مصر، فى انتظار الانتخابات الرئاسية التى ستجرى بعد أسابيع قليلة، والتى لن تنهى التساؤلات عن دور الجيش فى مستقبل الحكم فى مصر.
•••
يمكن القول براحة ضمير أنه لا حكم مدنيا فى أى من أقطار الوطن العربى، خصوصا وأن الممالك والإمارات تحصر السلطة فى العائلات المالكة.
لكن الطوفان الذى غمر الميادين فى السنوات الثلاث الأخيرة لا بد أن يكسر السدود والقيود، وأن يفتح أبواب الاهتمام بالشأن العام.
ومصر تبقى ميدان الاختبار الأساسى.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن على الشعوب العربية أن تعكف على تعلم العمل السياسى، من جديد.. وبلغة العصر، وليس بالبكاء على الماضى. فالهدف بناء المستقبل. ويفترض أن تقدر الأمة على استنقاذ مستقبلها.