لم أحب الإحصاء.. لكنني أحببتُ نادية مكاري - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 10 أكتوبر 2025 1:03 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

لم أحب الإحصاء.. لكنني أحببتُ نادية مكاري

نشر فى : الخميس 9 أكتوبر 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : الخميس 9 أكتوبر 2025 - 7:30 م

 فى كل مرة ألتقى فيها بالدكتورة نادية مكارى أستاذة الإحصاء العظيمة وهى تسير بأحد ممرات كُليتي- أطبع قُبلة فوق شعرها الأبيض بلون الكتّان. وفى كل هذه المرات لم أتخلّف عن أن أُسمِعها الجملة التالية: أظن أننى الوحيدة التى أحبت أستاذتها ولم تحب المادة التى تُدرّسها، فتضحك ضحكتها الهادئة ولا تعلّق. وعندما قرأتُ قبل عدة أيام نصًا لطيفًا جدًا للإعلامى المثقف دكتور محمد عبده بدوى بعنوان "لم أحب الشيوعية.. لكننى أحببتُ عواطف عبد الرحمن"- تذكرتُ حكايتى مع دكتورة نادية مكارى، مع أن هناك اختلافًا بين جوهر حكايته مع دكتورة عواطف وجوهر حكايتى مع دكتورة نادية. هو لم يكن يرتاح إلى الشيوعية كأيديولوچية سياسية، أما أنا فلم أكن ومازلت لا أحب الأرقام والجداول والمنحنيات، وأشعر أن الحياة تبدو ألطف مع النهايات المفتوحة وبالتمرد على النتائج المعروفة للعمليات الحسابية حيث ١+١ لابد أن يساوى ٢. ثم أننا كبشر لا نحمل الود عادةً لمن يشير إلى نقاط ضعفنا، وذلك ما كانت تفعله دكتورة نادية مكارى بدون قصد. أقول بدون قصد لأن الذى يقترب من هذه الإنسانة الرائعة يثق أنها ليست من ذلك الطراز من الأساتذة الذين يسخرون من طلابهم ويستمتعون بالتندر عليهم، لكن المشكلة فى التخصص .

• • •

كنتُ فى سنة أولى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة عندما تسلمتُ لأول مرة جدول العام الدراسى ووجدت فيه مادة للرياضة وأخرى للإحصاء فنزل الخبر علىّ كالصاعقة. كان ظنى أن سنة أولى ثانوى هى آخر عهدى بمادة الرياضة فإذا بى أجدها مقرّرة عليّ مع مادة أخرى تشبهها، وما كل ما يتمنى المرء يدركه حرفيًا. تضخمَت مخاوفى من الحياة الجامعية كطالبة جديدة تقول باسم الله الرحمن الرحيم وتدخل بقدمها اليمين إلى مبنى الكلية المشهورة. بدأنا أول محاضرة فى مبادئ الرياضة مع دكتورة ليلى ولا أذكر باقى اسمها فأنا لم أرتبط بها كثيرًا، وعرفت لاحقًا أنها لم تستمر فى الكلية وأعيرت للعمل فى إحدى دول الخليج. لكن ما أتذكره جيدًا هو أنها فى محاضرتها الأولى سألتنا سؤال العارف بالإجابة مسبقًا: انتم طبعًا عارفين التباديل والتوافيق مش كده يا أولاد؟ أصلنا حانبنى عليهم أول درس فى محاضرة النهارده. وقبل أن أفتح فمى لأقول تباديل إيه وتوافيق إيه أتى رد مزلزل من زملائى وزميلاتى خريجى القسم العلمى فى الثانوية العامة: أيوه عارفينهم يا دكتورة!!. هى سنة مش فايتة قلت لنفسى. رفَعت يدى لأطلب شرحًا وافيًا لموضوع التباديل والتوافيق، واستجابت الدكتورة ليلى.

• • •

فى اليوم التالى جاء موعد محاضرة مبادئ الإحصاء ودخلَت علينا دكتورة نادية مكارى.. امرأة بشوشة فى الثلاثينيات من عمرها، بسيطة المظهر تتدلّى من ذراعها حقيبة كبيرة كمثل حقائب النساء فى السبعينيات وإن ظل هذا النوع من الحقائب يلازمها حتى يومنا هذا. قليلة الحجم، هادئة الطبع، حنونة الصوت جدًا كأنها أم. قالت لنا إنها تعلم جيدًا إن هناك طلابًا يحبون الإحصاء وآخرين لا يحبونها، وإن هناك طلابًا درسوا مادة الإحصاء وآخرين لم يدرسوها من قبل، فلنتفق إذن على ألا نتخذ موقفًا مسبقًا من هذه المادة منذ البداية وننتظر حتى نهاية العام ثم نحكم. هذا الكلام بدا لى معقولًا من الناحية الشكلية، لكننى أعترف لها بعد كل هذا العمر بأننى قاومتُ شعورًا بالارتياح بدأ يتسلل إلى داخلى بفعل طريقتها الهادئة فى الشرح، فلقد كنت أخشى أن تجذبنى هذه الدكتورة اللطيفة إلى مساحتها التى لا أريد الدخول إليها أبدًا وأعرف أننى لن أجد نفسى فيها. ومضى الحال على هذا النحو طوال العام، أنتظر محاضرة دكتورة نادية مكارى لأنى أستريح لطريقتها فى التعامل مع طلابها، ولا أفتح فمى بكلمة أو أتفاعل مع موضوعات الإحصاء التى تدرسها لأنها ثقيلة على قلبى. ومع أننى نجحتُ بجيد فى هذه المادة وهو تقدير معيب وفق مقاييس الشطّار، لكن من المؤكد أنه لو كان الذى يدرِس لى المادة شخص آخر غيرها لصار الوضع أصعب.

• • •

دكتورة نادية مكارى هى صورة طبق الأصل من الزمن الذى وُلدت فيه، فهى الابنة الكبرى لأسرة من الطبقة المتوسطة، الأم كرسّت حياتها لبيتها والأب يشتغل بتدريس اللغة الإنجليزية. وفى هذا الزمن القديم كنا كثيرًا ما نسمع هاتين الجملتين، أن أفضل تربية تكون فى أسرة يشتغل ربّها بالتدريس، وأن أفضل تعليم يوجد فى مدارس الراهبات، وقد جمعَت أستاذتى فى نشأتها بين هذين الحسنيين. التحقَت دكتورة نادية بقسم الاقتصاد بكلية التجارة جامعة القاهرة قبل أن تظهر للوجود كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم انتقلَت إليها لاحقًا كمعيدة فى قسم الإحصاء. تحب الأرقام وتحسن التعامل معها وتراها لغة المنطق كما يفعل كل أصحاب فص المخ الشمال. سافرَت إلى كاليفورنيا لدراسة الدكتوراه، ثم عادت إلى مصر بعكس أخويها المهندس والطبيب البيطرى اللذين هاجرا إلى الولايات المتحدة. قلتُ لها يومًا: بتحبى إيه غير الأرقام يا أستاذتي؟ ردّت ببساطة: كنت باحب جدًا شغل الإبرة والخياطة وكنت أفصّل حلو قوى، دلوقتى كله جاهز والنظر ماعادش زى الأول... خطفَت قلبى.

• • •

منذ دخلتُ هذه الكلية وحتى يومنا هذا لم يحدث أن سمعت أن دكتورة نادية مكارى دخلَت طرفًا فى مشكلة أو كانت على خلاف مع أحد، فى حالها لكن مؤثرة، كالنسمة لكنها ليست عابرة، قليلة الكلام لكن إن نطقَت فكلامها فى الصميم، لا تحتاج أن تعايشها فترة طويلة حتى تشعر معها بالألفة.. اترك نفسك لها وستأتى إليك حتمًا. تحاول أن تحببك فى المقاييس الرياضية والمتوسطات الحسابية لتكون معها على نفس الصفحة كما يقولون، فإن لم تنجح فسوف تحوّل دفّة حبك إلى وجهة أخرى: إليها هى نفسها. عندما زحف الشيب إلى رأسها لم تلوّنه ولا مرة واحدة ولا أذكر أنها غيّرت حتى تسريحتها المعتادة، فهى كما هى. عندما سألتها عن عمرها ردّت بلذاذة مطلقة: بس انتِ ما بتحبيش الأرقام! عمومًا ٨٦ سنة يا ستى.

• • •

دكتورة نادية مكارى.. يا أستاذتى التى أحببتُ الإنسانة فى داخلها من أول محاضرة وتعلقتُ بأسلوبها من أول مرة.. ربنا يمتعك بالصحة وطول العمر.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات