كنا قد وصلنا للتو إلى «مولينا دى أراغون»، القرية الإسبانية التى تسكن قلب «مثلث الجليد»، لكن المفاجأة كانت فى غياب الجليد، لتحلّ محله حرارة تقترب من الثلاثين درجة وشمس ساطعة فى منتصف السماء. كانت الابتسامة الواسعة على الوجوه الشابة، بعيونها الزرقاء والسوداء والبُنية، هى القاسم المشترك الذى جمع كل الوافدين من ضفتى المتوسط.
مثلث الجليد هو منطقة داخلية فى شمال شرق إسبانيا تضم مدن مولينا دى أراغون، وكالاموتشا، وتيرويل، وتُعد من أبرد المناطق المأهولة فى البلاد. تقع هذه المدن على ارتفاع يفوق ألف متر، مما يجعلها عرضة لانخفاضات شديدة تصل أحيانًا إلى 35 درجة مئوية تحت الصفر.
هذه القرية التاريخية الواقعة فى شمال شرق إسبانيا، والتى تعود جذورها إلى العصور الرومانية والإسلامية، تستضيف زوارها من الشباب والشابات فى الجامعة الشبابية للتنمية (University on Youth and Development – UYD)، وهى منصة تربوية دولية غير رسمية تُعقد سنويًا منذ عام 2000 فى هذا الموقع الفريد.
انطلق حفل الافتتاح للدورة الرابعة والعشرين فى القاعة الكبرى للمعسكر، وحين اجتمعنا انبعث صوت من جهاز دائرى يشبه أنابيب الغاز القديمة، عرّف بنفسه كآلة ذكاء اصطناعى. تحدث الصوت بمودة، لكنه فتح باب التساؤلات حول مستقبل الأجيال القادمة فى ظل هذه التقنيات. وحين سكن الصمت ولم تتمكن الآلة من تبديد مخاوف الجميع، قفزت فرقة موسيقية إسبانية لتبث النغم والدفء فى جنبات المكان، فى مشهد جمع بين الدهشة من القادم الجديد «الاصطناعى» والفرح بالحضور «الإنسانى». شارك فى الافتتاح ممثلون من مجلس أوروبا ومعهد الشباب الإسبانى، مؤكدين أهمية بناء تحالفات دولية لمواجهة التحديات الرقمية.
لكن ما رافقنا على مدار الأسبوع كان الشال الفلسطينى الذى انتشر فى المكان، حاضرًا صامدًا كما هو دومًا، فلم تخلُ قاعة من شال فلسطينى مُعلّق.
نظّم هذا اللقاء السنوى المركز الأوروبى الشمالى الجنوبى التابع لمجلس أوروبا، بالشراكة مع تحالف دولى من المؤسسات الشبابية، أبرزها المعهد الإسبانى للشباب (INJUVE)، ومنتدى الشباب الأوروبى (YFJ)، ومجلس الشباب الإسبانى (CJE)، بالإضافة إلى ثمانى منظمات أخرى، من بينها المعهد الأوروبى للمتوسط (IEMed)، الذى تأسس عام 1989 فى برشلونة، ويُعد من أبرز المؤسسات الفكرية المعنية بتعزيز الحوار والتعاون بين ضفتى البحر الأبيض المتوسط، وقد كرّس جهوده هذا العام للباحثين الشباب، ليجمع نخبة واعدة من أساتذة وعلماء المستقبل.
ركّز لقاء هذا العام على «الأمان الرقمى وتمكين الشباب فى الفضاءات الرقمية»، انطلاقًا من التحديات المتزايدة التى تواجه الشباب والعالم بأسره. فى لقاء الجامعة الشبابية للتنمية 2025، طُرحت مجموعة من القضايا الرقمية المحورية التى تعكس أولويات الشباب فى العصر الرقمى، بدءًا من السلامة الرقمية وحقوق الإنسان، حيث تم التركيز على حماية الحقوق فى الفضاء السيبرانى، مرورًا بمحو الأمية الإعلامية ومكافحة التضليل عبر تدريبات لمواجهة الأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية، وصولًا إلى العدالة بين الجنسين والسلامة النفسية للفتيات. كما برز الحوار بين الثقافات والأديان كأداة لتعزيز التفاهم ومواجهة الصور النمطية، إلى جانب المواطنة الرقمية والمشاركة الديمقراطية التى هدفت إلى تمكين الشباب من صياغة السياسات والمساهمة فى اتخاذ القرار.
الشباب القادمون من 78 دولة من دول العالم، والذين تعرّفوا على بعضهم البعض فى قاعة الاستقبال، ما لبثوا أن خلعوا بطاقات الهوية وتواصلوا بإنسانيتهم، متجاهلين الحدود، عابرين للتقسيمات، كاشفين عن مساحات تعادل الأفق من التفاهم والتلاقى. لم يتذكر أى منهم موازين القوى، ولا السياسات التمييزية، ولا الاستغلال بأشكاله المتعددة، ولا موقعه فى شمال المتوسط أو جنوبه. تلاقت خبراتهم وإنسانيتهم، ورقصوا وغنّوا ولعبوا معًا، وتبادلوا النقاش والأحلام والفرح، واتفقوا من دون نقاش على عدالة المطالب الفلسطينية وعلى استنكار الحرب والاستبداد بكل أشكاله.
فى قاعات المحاضرات، تجمعوا فى حوارات تشع حيوية وذكاءً، وفى المساء تحلّقوا حول الموسيقى الإسبانية التى قُطعت مرات عدة لتنطلق أصوات الشباب العربى بأغنيات سيد درويش والشيخ إمام. شباب من المغرب وتونس ومصر وفلسطين ولبنان والسودان وليبيا وقفوا متجاورين باعتزاز، كأنما رسالة يبعثون بها إلى ساكنى الغرف المصمتة.
إن ضعف أو غياب الأمان الرقمى ليس مجرد ثغرة تقنية، بل تحوّل إلى تهديد وجودى يمسّ إنسانيتنا، ويفكك آليات تفكيرنا ومستقبلنا الجمعى. فنحن نواجه استعمارًا رقميًا جديدًا، حيث تُحلل خوارزميات الذكاء الاصطناعى نشاطاتنا منذ الطفولة لتتنبأ بميولنا وأمراضنا ونقاط ضعفنا، وتُباع هذه التوقعات لتشكيل قراراتنا المصيرية من دون وعى منا، مما يهدد إرادتنا الحرة.
هذا الاختراق لا يطال المستقبل فقط، بل يؤثر على قدرتنا على التذكر والتأمل؛ إذ يشير علم الأعصاب إلى أن الاعتماد على الإنترنت كذاكرة خارجية يؤدى إلى ضمور منطقة «الحُصين» فى الدماغ، ما يُضعف التفكير النقدى وبناء السرديات المعقدة. والأخطر أننا نواجه تهجيرًا وجوديًا من الذات، حيث تُسرق سرديات حياتنا وهوياتنا، وتُهندَس مشاعرنا لخدمة أهداف سياسية وتجارية، مما يعنى أن الاختراق بات يمسّ كيمياء أدمغتنا.
وتقوم الخوارزميات بتشذيب خيالنا، فتحبسنا فى دائرة ضيقة من الاهتمامات، وتمنعنا من اكتشاف احتمالات معرفية جديدة. لذا، لم تعد الحماية الرقمية خيارًا تقنيًا، بل واجبًا إنسانيًا لحماية سيادة القرار، وسلامة العقل، وحرية الإرادة.
يقف شباب اليوم على مفترق تاريخى: فهم أول جيل وُلد فى العالم الرقمى، وآخر من يذكر الحياة قبله. مستقبلهم لا يُقاس بمهاراتهم التقنية فقط، بل بقدرتهم على قيادة التكنولوجيا دون فقدان إنسانيتهم. وهم بحاجة إلى مناعة رقمية تُمكّنهم من تمييز الحقيقة من الزيف، والمعرفة من التضليل. فحمايتهم رقميًا هى استثمار فى مستقبل العالم، وتحويلهم من مستهلكين خاضعين إلى مبدعين واعين، ومن أهداف للاستغلال إلى حراس للقيم الإنسانية فى الفضاء الرقمى.