نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالًا للكاتب ممدوح مبروك، تناول فيه العلاقة المتشابكة بين تقنيات الذكاء الاصطناعى (AI) والمجال السياسى، مع التركيز على الفرص والتحديات والمخاطر الأخلاقية التى يثيرها هذا التزايد فى الاعتماد على الذكاء الاصطناعى فى عمليتى صنع القرار والحملات الانتخابية، وتأثيره المحتمل على مستقبل الديمقراطية.. نعرض من المقال ما يلى:
صارت تقنيات الذكاء الاصطناعى إحدى الآليات الأساسية التى يعتمد عليها صانع القرار فى عالمنا اليوم، حيث تلجأ إليها الحكومات فى تحليل البيانات لاتخاذ قرارات ووضع سياسات أكثر استنارة من خلال محاكاة سيناريوهات سياسات مختلفة، وتقييم آثارها المحتملة، وإجراء التعديلات اللازمة. هذا بالإضافة إلى المساعدة فى الكشف عن الفساد من خلال تحليل المعاملات المالية والسجلات الحكومية بحثًا عن أى مخالفات.
من ناحية أخرى، قد يؤدى الاعتماد المفرط لصانع القرار على تقنيات الذكاء الاصطناعى إلى بعض المخاطر، يقف على رأسها تراجع ثقة الجماهير، وإضعاف القيم الديمقراطية، بسبب تركز عملية صنع القرار فى الأنظمة الآلية بدلًا من البشر. وهنا تظهر الإشكالية الأساسية التى تعانى منها سائر المجالات المعتمدة على خوارزميات الذكاء الاصطناعى، وهى كيفية تعزيز الاستفادة من إيجابيات التكنولوجيا من دون الاستغناء عن العنصر البشرى.
فى السياق ذاته، ازداد فى الآونة الأخيرة الحديث عن العلاقة بين الذكاء الاصطناعى والانتخابات، والدور الذى يمكن أن يضطلع به فى تحسين العمليات الانتخابية من خلال التنبؤ بسلوك الناخبين، وتحسين استراتيجيات الحملات الانتخابية، ومراقبة الإجراءات الانتخابية للكشف عن المخالفات. كما يمكن للأنظمة، المدارة بالذكاء الاصطناعى، تحليل بيانات الناخبين لتحديد الاتجاهات، مثل: التغيرات فى الرأى العام أو الحركات السياسية الناشئة، ما يساعد الأحزاب السياسية على تعديل استراتيجياتها وفقا لذلك.
يمكن للذكاء الاصطناعى أيضا أن يضطلع بدور فى ضمان انتخابات أكثر عدالة من خلال مراقبة منصات التواصل الاجتماعى بحثا عن وجود أية معلومات مضللة، وكشف حالات التزوير الانتخابى، الأمر الذى يسهم فى تعزيز الشفافية والنزاهة فى العمليات الانتخابية.
من جانب آخر، تثير العلاقة بين الذكاء الاصطناعى والانتخابات مخاوف أخلاقية تتمثل فى قضايا مثل: التلاعب بالناخبين، وانتهاكات خصوصية البيانات، ونشر المعلومات المضللة حيث يمكن استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعى لاستهداف الناخبين بدقة من خلال رسائل مخصصة، ما قد يؤثر على تصوراتهم وقراراتهم. علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعى تضخيم الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، ما يشكل تهديدا لنزاهة العمليات الديمقراطية.
وضع السياسات
تتبنى الحكومات تقنيات الذكاء الاصطناعى لتحليل مجموعات بيانات واسعة وتحديد الأنماط التى ترشد عملية وضع السياسات؛ فعلى سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعى الكشف عن الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية، والتنبؤ بنتائج التدخلات السياسية المختلفة، ووضع سيناريوهات مستقبلية تساعد الحكومات فى صوغ سياسات أكثر تكيفًا مع الاحتياجات المتغيرة للسكان، هذا بالإضافة إلى إمكانية قيام الحكومات بتعديل سياساتها بناء على المعلومات الجديدة والظروف المتغيرة.
تمتد نتائج الذكاء الاصطناعى وصنع السياسات عبر قطاعات مختلفة مثل:
سياسات العمل: يمكن للذكاء الاصطناعى تحليل اتجاهات سوق العمل للتنبؤ بنقص المهارات واقتراح تدخلات مستهدفة، مثل برامج إعادة تأهيل المهارات للحد من البطالة.
سياسات الرعاية الصحية: يمكن للرؤى القائمة على الذكاء الاصطناعى أن تساعد فى تصميم سياسات رعاية صحية أفضل من خلال التنبؤ بتفشى الأمراض، وتحديد الثغرات فى تقديم الخدمات، وتحسين توزيع الموارد.
سياسات الأمن: فى مجال الأمن القومى يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعى اكتشاف التهديدات السيبرانية والتنبؤ بها، ما يسهم فى تطوير سياسات أكثر شمولًا للأمن السيبرانى.
على الرغم من المزايا التى يحققها الذكاء الاصطناعى فى صنع السياسات، فإنه ينطوى أيضًا على بعض المخاطر، أبرزها التحيز وعدم المساواة، لذلك يتعين على صانعى السياسات ضمان تنوع مجموعات البيانات وتمثيلها، وأن تتمتع أنظمة الذكاء الاصطناعى هذه بالشفافية، وأن تكون خاضعة للمساءلة.
الحملات الانتخابية
تستخدم الأحزاب السياسية الذكاء الاصطناعى لاستهداف الناخبين بدقة أكبر، وتقسيم الجماهير بناء على التركيبة السكانية والسلوكيات، وتخصيص رسائل الحملات الانتخابية لتناسب فئات محددة من الناخبين، وذلك من خلال قدرة تقنيات الذكاء الاصطناعى على مراقبة وسائل التواصل الاجتماعى، وقياس الرأى العام من خلال تحليل مشاعر الناخبين، ما يمكنها من تعديل استراتيجياتها إذا لزم الأمر.
يضطلع الذكاء الاصطناعى بدور متزايد أيضا فى توليد محتوى الحملات، بدءا من استحداث رسائل بريد إلكترونية ومنشورات شخصية على وسائل التواصل الاجتماعى، وصولا لتطوير محتوى فيديو مصمم لجماهير محددة، وبالتالى يمكن القول إن المحتوى المولد بالذكاء الاصطناعى أصبح عنصرا أساسيا فى التسويق السياسى الحديث، حيث يمكن هذا النهج الحملات من الوصول إلى المزيد من الناخبين برسائل مخصصة بتكلفة أقل، ما يزيد من فعاليتها الإجمالية.
ومع ذلك، فإن ازدياد استخدام المحتوى المولد بالذكاء الاصطناعى فى الحملات الانتخابية يثير أيضا تحديات، ولاسيما فى ما يتعلق بالمعلومات المضللة والتزييف العميق، حيث يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى لاستحداث صور أو مقاطع فيديو أو تسجيلات صوتية واقعية، ولكنها زائفة، ما قد يضلل الناخبين ويقوض الثقة فى العمليات السياسية.
تحديات أخلاقية
أدى تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعى فى المجال السياسى إلى ظهور عدد من التحديات التى يجب معالجتها للحفاظ على الديمقراطية والحوكمة العادلة، مثل:
أولًا: التحيز الخوارزمى
يمكن أن يؤدى التحيز الخوارزمى إلى ممارسات تمييزية فى صنع القرار السياسى، مثل: استهداف فئات محددة للمراقبة. وبالتالى يجب الالتزام بتطبيق خوارزميات تتمتع بالشفافية وأن تخضع للتدقيق بانتظام للكشف عن التحيز.
ثانيًا: الغموض فى صنع القرار
لدى استخدام الحكومات لخوارزميات الذكاء الاصطناعى فى عملية صنع القرار، يصبح هناك شك فى كيفية اتخاذ تلك القرارات، ما قد يؤدى إلى مخاوف بشأن شرعيتها ونزاهتها. ولهذا السبب، تعد الشفافية السياسية أمرًا بالغ الأهمية عندما يتعلق ذلك بالحفاظ على ثقة الجمهور ودعم القيم الديمقراطية.
ثالثًا: خصوصية البيانات والمراقبة
غالبًا ما ينطوى الذكاء الاصطناعى فى السياسة على جمع كميات هائلة من البيانات الشخصية وتحليلها، ما يثير مخاوف بشأن الخصوصية والمراقبة وانتهاك حقوق الأفراد، لا سيما فى الأنظمة الاستبدادية التى عادة ما تستخدم تقنيات المراقبة لقمع المعارضة.
تتطلب مواجهة تلك التحديات وضع أطر تنظيمية تستند إلى قيم الشفافية، والإنصاف، والمساءلة، بما يضمن توافق تطبيقات الذكاء الاصطناعى مع المبادئ الديمقراطية وحماية حقوق المواطنين. كما يجب على الحكومات والمنظمات الدولية التعاون لوضع معايير وإرشادات للاستخدام الأخلاقى للذكاء الاصطناعى فى السياقات السياسية.
مصير الديمقراطية
من المرجح أن يؤدى تزايد اعتماد الأنظمة السياسية على تقنيات الذكاء الاصطناعى إلى صعود ما يسمى بـ "الديمقراطيات الرقمية"؛ حيث يشارك المواطنون فى عمليات صنع القرار من خلال منصات مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعى، تسمح للمواطنين بالتصويت على قضايا سياسية أو تقديم ملاحظات فورية على الإجراءات الحكومية. وعلى الرغم من ذلك، فإن نجاح هذا الأمر سيعتمد على مدى شفافية أدوات الذكاء الاصطناعى، وعدم تحيزها، بالإضافة إلى مبدأ الإتاحة ومدى إمكانية وصول جميع المواطنين إليها.
وفقا للتوقعات، يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعى أن تعيد تشكيل النظم الانتخابية من خلال إدخال ابتكارات مثل: التصويت الإلكترونى، والصنع الآلى للسياسات، حيث يمكن لأنظمة التصويت، المدعومة بالذكاء الاصطناعى، أن تجعل عملية التصويت أكثر سهولة وأمانا وتزيد من حجم المشاركة السياسية، لا سيما بين المواطنين الأصغر سنًا والأكثر دراية بالتكنولوجيا.
من المتوقع أيضًا أن يضطلع الذكاء الاصطناعى بدور أكثر أهمية فى تشكيل الأنظمة السياسية فى المستقبل، إلا أن مدى تأثيره سيعتمد بشكل كبير على كيفية اختيار الحكومات والمجتمعات لاستخدام تقنياته والقدرة على تنظيمها. ففى حال تمت إدارته بفعالية سيؤدى إلى حوكمة أكثر كفاءة؛ وعلى العكس إذا ترك من دون رادع فقد يؤدى إلى تقويض القيم الديمقراطية، وتآكل ثقة الجماهير.
فى ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن الطريقة المثلى لتحقيق استفادة كبرى من إيجابيات الذكاء الاصطناعى، مع تلافى التحديات الناجمة عن الافراط فى الاعتماد عليه، هى تحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجى والبشر من خلال وضع سياسات وأطر عمل تشجع على الاستخدام المسئول للذكاء الاصطناعى من قبل الأنظمة السياسية بالشكل الذى يضمن تعزيز أدوات الذكاء الاصطناعى لعمليات صنع القرار البشرى، وأن يحتفظ المواطنون بدور محورى فى الحوكمة الديمقراطية.
النص الأصلي
https://tinyurl.com/4wmp6kwc