عندما أصبح التحكم فى الطائرات يتم عن بعد تغير نمط الحروب. فالطائرات التى تعمل بدون طيار بسيطة التكلفة لكنها عظمية الفوائد. فمثلا تطلق روسيا مسيرات إيرانية لا تتعدى تكلفتها بضع مئات من الدولارات قادرة على إصابة أهداف بالغة الحيوية، مما يتطلب تشغيل منظومة الدفاع الجوى المضاد لتلك المسيرات. لكن المفارقة أن تكلفة صواريخ الدفاع الجوى بآلاف الدولارات، وأحيانا بالملايين. ولقد ذاقت روسيا من نفس الكأس عندما تسللت مسيرتان واستهدفتا الكرملين فيما اُعتبر فضيحة لأنظمة الدفاع الجوى الروسية. وفى سياق متصل، تجرى تجارب تسيير السيارات بدون سائق فى عواصم عديدة منها أبوظبى، قبل نشر التجربة وتعميمها فى سبل المواصلات المختلفة، فيما يعد تغييرا مدويا فى عالم المواصلات. لكن الأمر غير المتصور أن تقتحم التكنولوجيا عالم الأفكار والابتكار، وتسيير «ذاتيا» أعمال يقوم بها الإنسان، فيصبح برنامج كمبيوتر هو رئيس التحرير، أو مخرج سينمائى، أو يستكمل مسيرة فنانين مبدعين. وما لم يكن متصورا منذ أشهر قليلة أصبح واقع آخذ فى الانتشار.
• • •
بالأمس القريب كانت اللجان الإلكترونية هى الوسيلة للترويج للمعلومات المضللة، فيما تسميه الدراسات الأكاديمية «بمزارع المحتوى». ولكن لم يكن من المتصور أن يجارى الذكاء الاصطناعى تلك اللجان، ويتفوق عليها وينشئ منصات إخبارية تحمل أسماء توحى بأنها مواقع إخبارية حقيقة، ولكنها تنشر محتوى متواضعا إضافة إلى معلومات كاذبة. إذ، كشفت بعض المواقع المتخصصة فى متابعة تلك المنصات على الإنترنت، وجود 49 موقعا إخباريا يعمل بواسطة الذكاء الاصطناعى. ولم تُصنع تلك المواقع الإخبارية لتكون «صادقة» وإنما لتكون «مقنعة»، مما يساهم فى ترويج روايتها التى تشمل معلومات غير صحيحة. وتعمل تلك المواقع بالذكاء الاصطناعى التوليدى، وهى تقنية تعرف باسم «نموذج اللغات الضخمة» Large Language Model، تحلل كيف يرتب الإنسان الكلمات مستفيدة من كم المعلومات الهائل المتاحة التى يمكن تنزيلها من الإنترنت، ثم تحاكيها عبر تخمين الكلمات من أجل خلق المحتوى، بدون أن يعنى ذلك أنها تفهم ما تنتجه، أو تدرك الخطأ فيه. وهذا بالضبط ما يثير المخاوف بشأن المنافع المتوقعة مقابل المخاطر من تطوير برامج مثل «شات جى.بى.تى» وغيرها.
وإلى مثال آخر، عما يمكن أن يحدثه هذا التزييف للواقع، فلقد انتشرت صورة مصنوعة بالذكاء الاصطناعى يوم 23 مايو، فى مختلف مواقع التواصل، أدت إلى اعتقاد تيار جارف على منصة تويتر بأن ثمة انفجار وقع فى مبنى وزارة الدافع الأمريكية، البنتاجون. وبعد انتشار الخبر، تأثرت بورصة نيويورك، لمدة 4 دقائق كاملة، كانت كفيلة بخفض مؤشر داو جونز بنحو 0.15%، وعاود المؤشر للارتفاع معوضا بعض الخسائر بنسبة 0.02% بعد نفى هذا الادعاء. ولو طال أمد التحقق من مصداقية الخبر لفقدت الأسهم مليارات الدولارات الإضافية. ولعل إصدار وزارة الدفاع الأمريكية نفيا رسميا نقلته مختلف المحطات الإخبارية العالمية، وعلى رأسها السى ــ إن ــ إن، لتحول الموضوع إلى أزمة.
الآن قارن هذا التحرك السريع بتحرك آخر أقل سرعة قد لا يتنبه لوجود التريند، أو تأخر قليلا فى التعامل مع الخبر الكاذب. علما بأن وتيرة هذا النوع من الهجمات أخذة فى التزايد، حيث أصبح من المتاح للأفراد العاديين صناعة صور مفبركة بفضل «الذكاء الاصطناعى التوليدى» كانت تتطلب من قبل خبراء وبرامج احترافية مثل الفوتوشوب. وإذا أضفنا إلى ذلك وجود مواقع إخبارية يديرها الذكاء الاصطناعى الذى لم يتم ترويضه بعد بالقوانين واللوائح، فإن المخاطر تفوق ما هو متصور.
وإلى مثال آخر من مصر، ولكن هذه المرة يخص الإبداع، حيث قام الملحن عمرو مصطفى بتلحين أغنية جديدة لأم كلثوم خرجت بصورتها وصوتها عبر استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعى. وأثارت هذه القضية جدالا كبيرا بين الملحن من جانب وورثة السيدة أم كلثوم من جانب آخر، وكذلك أحد المنتجين الذين يملكون حقا حصريا فى تراث أم كلثوم. ويبدو أن المسألة تتطور بصورة سريعة، وستصل إلى القضاء المصرى ليتداول القضية ويقول كلمته.
ونحن هنا لسنا فى معرض الانحياز إلى طرف على حساب الآخر، وإنما نتابع ما يقوم به الذكاء الاصطناعى لنرصد التغيرات التى تطرأ فى مختلف المجالات والتى تفجر قضايا عامة غير تقليدية. ففى الحالة الماثلة أمامنا لأغنية «جديدة» لم تعتد على أى من أغانى السيدة أم كلثوم، وهذا ينفى الاعتداء على تراثها أو على حقوق الملكية. ومن هذا المنطلق قد يكون السؤال الذى يفجره موضوع الأغنية هو حقوق الملكية الخاصة بصوت السيدة أم كلثوم. فهل هذا شأن عام أم شأن خاص؟ بمعنى هل صوت الفنان، لاسيما بعد رحيله ملك لأسرته؟ ومن ثم هل تتسبب قضية أغنية أم كلثوم الجديدة فى إدخال تعديل على بعض التشريعات القائمة لصون أصوات الفنانين، سواء من رحل أو من هم على قيد الحياة؟ وهل ينطبق نفس الشىء على الممثلين أيضا؟ وعلى غيرها من أصناف الفنون؟
• • •
لاحظ، عندما يتم تطويع الذكاء الاصطناعى ليصبح أداة بيد المبدعين فإنه قد يضيف أمورا «نستحسنها»، ولكن ينقلب الأمر عندما يتم الاعتداء على حقوق الآخرين بنفس الآلية. أما المدهش فى هذا الصدد، أن قضية الملحن تعيد سؤالا تاريخيا حول حدود الحرية، وحدود الإبداع، كنا نظن أنه أصبح من أسئلة الماضى، فإذا بالذكاء الاصطناعى يثير من جديد هذا النوع من الأسئلة. ثم ماذا عن تزييف الوعى؟، فإذا كانت السيدة أم كلثوم وجدت من يدافع عنها بعد رحيلها، فماذا عن آلاف الفنانين والمبدعين الذين لا حظ لهم من شهرة، بينما تحمل أعمالهم إبداعا إنسانيا راقيا؟ ثم ماذا لو استنبط الذكاء الاصطناعى بعضا من أفكارهم، واستنسخ بعضا من إبداعهم بدون استئذان؟ وبالأمس القريب انفجرت قضية أخرى تخص إعلانات شركة شهيرة للمشروبات الغازية، اتهم فيها فنان تشكيلى روسى «للمرة الثانية» شركة مصرية بالسطو على أعماله، مما تسبب فى فضيحة بالمرة الأولى، ومواجهة بالمرة الثانية.
والسؤال هنا سؤال افتراضى، ماذا لو كان الذكاء الاصطناعى متدخلا فى هذا الموضوع دون إفصاح، أو حتى بدون دراية من الشركة؟ وماذا عن أعمال قصصية وكتابات إبداعية للمؤلفين! ماذا لو أصدر الذكاء الاصطناعى مجموعة قصصية «جديدة» لكاتب «راحل» مثل «الدكتور نبيل فاروق»، أو الكاتب «أحمد خالد توفيق؟» هل نتعامل مع الإصدارات الجديدة على أنها استمرار لنهج الإبداع أم تزييف لتراث المبدعين؟
لا أحد بمفرده يملك الإجابة عن هذه الأسئلة، بل لابد أن تصدر الإجابات بناء على حوار مجتمعى واسع النطاق. أخذا بالاعتبار بأننا جميعا فى خانة «المفعول به» بينما خانة الفاعل هى ملك «الشركات» التى تطور التقنيات، مثل شركة مايكروسوفت، وجوجل، وأوبن ــ إيه ــ آى. علما بأننا فى المرحلة الأولى لتطور الذكاء الاصطناعى. أما المرحلة الثانية فستأتى مع تقنية ميتافيرس، أو ما وراء العالم.