نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالا للكاتبة «آمال قرامى»، جاء فيه ما يلى:
انتحاريون، تفجيريون، ذئاب منفردة... لا تهمّ التسميات. ما يعنينا هو الأفعال، وما يترتّب عنها من نتائج على مستوى ضمان سلامة المنتمين إلى الجهاز الأمنيّ المستهدف بالدرجة الأولى، (فهم من منظور المتشدّدين «طغاة» ينبغى استئصالهم)، وكذلك على مستوى أمن التونسيين ككلّ ثمّ على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا محلّ هنا لقراءة انطباعيّة انفعاليّة «سياساويّة» إنّما تقتضى محاولة فهم الحدثين الانفجاريين الاستناد إلى عُدّة منهجيّة وفّرتها دراسات الإرهاب والتطرّف العنيف تمكّننا من استخلاص مجموعة من النتائج وأوّلها: الطابع الحركيّ الديناميكيّ للنشاط الإرهابيّ فى بلادنا. فقد انتقلنا فى السنوات الأخيرة من وضع العمل على السيطرة على الإرهاب ودحر الإرهاب وتحييد الخطر الإرهابيّ وتحويل الجماعات الجهاديّة إلى «خلايا نائمة» إلى وضع جديد يتطلّب الإقرار بأنّ الخلايا الجهاديّة لم تكن فى سبات عميق بل إنّها ظلّت فى الواقع، فاعلة: تجمع المعلومات وتدرس المخطّطات، وتختبر مختلف الفرضيات وتنتقى أفضل التواريخ لإنجاز العمليّات التفجيريّة. وهو أمر يدفعنا إلى إعادة النظر فى عبارة «الخلايا النائمة» وسياسات التعامل معها، والخطاب المنجز حول «الإرهاب».
أمّا النتيجة الثانية فتتمثّل فى انتقال فئة من الشبّان/الفتيات التونسيين من مرحلة الافتتان بالعقيدة الجهاديّة والفكرة والإيمان بالمشروع، والعمل المنظّم داخل الجماعات الجهاديّة إلى مرحلة الفعل الفرديّ فى الواقع من خلال العنف الدمويّ، أى الأفعال الراديكاليّة، وهو ما يجعلنا نغيّر شبكة المفاهيم والمعجم الاصطلاحيّ؛ إذ آن الأوان لنتحدّث عن مواصفات «إرهاب الذئاب المنفردة» lone wolf terrorism إذ كلّما ضُيّق الخناق على الجماعات المتشدّدة وصار العمل الجماعيّ عسيرا أصبح العمل الفردى فى المقابل هو البديل المتوقّع لأنّه أيسر بكثير. فـ«الانتحاريّ» يراوغ الأمنيّين ويفلت من قبضتهم نظرا إلى صعوبة مراقبة الأفراد فى الفضاء العموميّ، ورصد العلامات التى يمكن أن توحى بوجود «انتحاريّ/ة».
وتّتضح النتيجة الثالثة فى الانتقال النوعيّ للعمليّات التفجيرية. فبالتزامن مع الحدث الأوّل نفّذ الحدث الثانى وكانت المحاولة الثالثة ولكنّها باءت بالفشل، وهو ما يثبت وجود مخطّط يروم تشتيت جهود المؤسسة الأمنية من جهة، وتحقيق حالة من الرعب والهلع لدى التونسيين، من جهة أخرى. وما الانتقال إلى هذه النوعيّة من الاختبارات إلاّ علامة دالة على الصلة الوثقى بين الثالوث: العقيدة الجهاديّة ــ المشاعر ــ الأفعال والسلوك. فوفق المحللين النفسيين كلّما تعدّدت العوائق وعسر تنفيذ المشروع 'الجهاديّ' ازداد الحنق والسخط والشعور بالإحباط، والرغبة فى الانتقام من الجميع.
وتتمثّل النتيجة الرابعة المستخلصة فى العلاقة بين الانتحارية منى قلبى والانتحاريين الجدد إذ لا يخفى أنّ العلاقات الجندرية فى صلة بالسلطة الرمزية. فأن تكون الفتاة هى المبادرة بتفجير نفسها يحفّز بقيّة الذكور على إبراز مدى تلهّفهم على ممارسة العنف فى سبيل نيل الشهادة وانتزاع الاعتراف. وليس الفضاء العمومى، فى مثل هذه الحالة، إلاّ ركحا لعرض الرجولة «الكاملة» التى يتغنّى بها الجهاديون والمنشدون.
أمّا النتيجة الخامسة فهى التحوّل الطارئ على بنية العلاقات داخل الجماعات الجهاديّة المؤطرة للانتحاريين. فبعد مرحلة التنظيم وجمع التمويل والاستقطاب ورصّ الصفوف.. جاءت مرحلة الاستثمار فى الشباب المستقطب وتحويلهم إلى أداة تستعملها القيادات لتحقيق أهداف تصبو إلى تحقيقها، وهو انتقال نوعيّ فى «أيديولوجيا الاستشهاد». فبعد التضحية بالنفس فى سبيل الأمّة بات العمل على التضحيّة بالمستقطبين فى سبيل الذات، وهو ما يسمّى بـ«الجهاد بالوكالة» أى نيل الثواب بالركوب على تضحيات الآخرين، وهو تحليل يستند إلى النظريّة الاقتصادية الخاصّة بطرق ووسائل «الإثراء بالوكالة».
وسواء كان الانتحاريّ أداة تنفّذ تعليمات الجماعة أو «ذئبا منفردا» ينتصب للحساب الخاصّ محوّلا قناعته إلى واقع ملموس بحثا عن الخلاص الفردى (الشهادة) فإنّ الدرس المستخلص هو أنّ سقوط «دولة الخلافة» لم يُتقبّل على أساس أنّه النهاية: نهاية حلم إقامة الدولة العادلة العابرة للقارات بل إنّه البداية. فمسارات تنفيذ الفكرة متعدّدة ومستمرّة طالما وجدت الظروف الملائمة وعقل يدبّر وعواطف تتأجّج ومشاعر جيّاشة وأحلام تدغدغ الناشئة.
فهل بإمكان مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والحقوقيين وغيرهم أن يبتكروا البديل ويصنعوا فكرة ويروّجوا للمشروع الجامع الذى يلتف حوله الشبّان علّهم يتحوّلون إلى بناة الأمل وصانعى ثقافة الحياة.. الحلّ بيد الشبّان والشابّات فهم بناة الغد الأفضل لتونس.