اليوم هو أول أيام عيد الأضحى المبارك كل سنة وأنتم طيبون جميعاً، هذا العيد ظللتُ عمراً كاملاً لا أشعر بمذاقه على العكس من العيد الصغير الذي تكون له بهجة خاصة، فقط عندما حججت إلى بيت الله الحرام تغير الوضع. لم أكن أشعر بمذاق العيد الكبير لأني أفتقد كل الطقوس المحببة التي تواكب شهر رمضان وتنتهي بالعيد الصغير، لا مدفع.. لا تراويح.. لا مسحراتي.. لا موائد رحمن.. لا زينة.. ولا فوانيس. رمضان كله على بعضه حالة خاصة جداً وعيده مثله، صحيح أن كل أسرة تصنع لنفسها رمضانها وتكون لها فيه طقوسها المميزة لكن هناك خط عام يربط كل البيوت المصرية ويجعلها تشبه بعضها البعض. أما قبل العيد الكبير فإن الروتين العادي يسود حتى عند الأسر التي تصوم الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة ومن باب أولى عند الأسر التي تكتفي بصيام يوم وقفة عرفة، وحتى الطقس الخاص باستضافة خروف العيد لبضعة أيام ومشاركة الصغار في إطعامه واللعب معه اختفى تدريجيا من معظم البيوت المصرية بسبب مصاعب الحياة، وتكفلت فكرة الصكوك بتقديم حل عبقري لمشكلة غلاء سعر الخروف.
***
ظل الحج هدفاً عزيزاً أتمنى تحقيقه وأؤجله، أريد أن أختم به عمري لأصعد إلى ربي كما ولدتني أمي وأخشى أن ينتهي العمر قبل أن أغسل ذنوبي في يوم عرفة، لكن كل شيء بأوان. أخذَت أشواقي للقاء الرسول تنضج على نار هادئة سنة بعد أخرى، ورحتُ أدخر لحجة العمر ما يسمح بأن يجعلها إنسانية، ومررتُ بأزمة نفسية آذتني، وهكذا تضافرَت هذه العوامل جميعاً فاتخذتُ قراري وتوكلتُ على الله. قبل هذه اللحظة لم أسمح قط لسؤال المتطفلين "لماذا لم أحج بعد؟" بأن يحرجني، لا أحب التعدي على المساحات الخاصة وتلك مساحتي الخاصة وحدودي. لن أكون أبداً مثل صاحبنا إياه الذي رَسَت عليه قرعة الحج قبل عامين في المؤسسة التي يعمل بها فحَجَ من باب الإحراج، ثم عاد كما يقولون كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا، أبداً لن أكون.
***
ما أن قمتُ بالحجز قبل فترة من موعد السفر حتى بدوتَ وكأني أتعرفُ على التاريخ الهجري بشكلٍ مختلف فأيامه لا تكاد تمر وتمضي على مهلها، ينقلني ربيع لآخر ورجب لشعبان لكن ببطء شديد، حتى رمضان نفسه بدت لي أيامه أبطأ من المعتاد وهي التي ما إن تبدأ حتى تنفرط، إنني أتعجل احتفالاً من نوع جديد بحلول العيد الكبير.. العيد الكبير؟ نعم العيد الكبير.. تعبير صار له في قلبي وقع مختلف. في الأثناء أشياء كثيرة تحدث.. هواجس لا أول لها ولا آخر تنتابني وتلخبط كياني، هواجس فيها قلق مشروع وأنا مقبلة على اختبار عظيم، وفيها دهشة واستغراب من العيش مع امرأة لا أعرفها لمدة عشرة أيام في غرفة واحدة وأتنقل معها من المدينة لمكة، هل تكون طيبة؟ كانت فعلاً طيبة. نصائح وتحذيرات وتمنيات ودعوات/ أمانات تنهال عليّ من ذوي الخبرة تشككتُ كثيراً في أن أمتصها وأحتفظ بها، لقد ضعُفَت الذاكرة مع تقدم العمر وبتُ أنسى ماذا أكلتُ في الغداء ومازال على طرف لساني مذاق الطعام فكيف أتذكر كل هذه التفاصيل؟ الحل في التدوين. جئت بأچندة متوسطة الحجم وكتبت على أول صفحة فيها "نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء".. والله زمان! هكذا كنت أكتب فوق كتبي أيام التلمذة، ثم رحت أدوّن في الأچندة كل المعلومات والخطوات والأدعية والحاجات.. وضعت الأچندة في جيب كبير داخل حقيبة السفر ثم نسيتها تماماً ولم أكتشفها إلا وأنا أستعد لرحلة العودة! تبين لي أننا في الحج لا نحتاج للتدوين لأن الفطرة ترشدنا، ثم أننا نسافر بصحبة الداعية الموثوق الشيخ فلان وهو مسؤول عنا، ترتاح ضمائرنا كثيراً عندما نحمّل المسؤولية لآخرين.
***
إحساس مدهش ذلك الذي يستقبل به الحاج فجر أول أيام العيد الكبير، التكبيرات هي التكبيرات لكن في السياق يكمن الاختلاف، التكبيرات في رحاب الكعبة تخلع القلب وترج الجسم وتسيل الدمع.. كل قرب من الكعبة يسيل الدمع. هذا أول صباح يشرق على الحاج وقد صارت ذنوبه خلف ظهره بعد أن انتهى بالأمس من الوقوف بعرفة التي هي الحج والحج هي، شعور عميق بالارتياح. وها قد حان وقت تصفية الحساب مع إبليس ويا له من حساب، اليوم نلقمه سبع حصوات وسيرتدع إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد على الأكثر، الصبر طيب. نشاط مفاجئ يدب في الأوصال وقد شارفنا على إدراك النهاية، وهكذا هو الوضع دائماً قرب النهايات: نشد الحيل لبلوغها. أحمل حصواتي وأتوجه مع المجموعة إلى منى، صرنا جميعاً أصدقاء وبيننا ذكريات حلوة كثيرة، ولاحقاً عندما تعرضتُ في الفندق لحادث بسيط وجدتُ منهم اهتماما عوضني عن غياب الأهل. درجة الحرارة في الظل تتجاوز الأربعين لكن هانت.. المياه الباردة التي نسكبها فوق رؤوسنا يتبخر معظمها من قبل أن تسيل قطراتها على الوجوه. لوحة متماوجة من البشر فيها انصياع ومعاناة ورضا وفيها بالطبع القلق والأسئلة إياها عند كل صغيرة وكبيرة: حجم الحصوات.. نَص الأدعية والتكبيرات.. ضبط النفس في الزحام. لو شق أحد قلبي في تلك الأثناء لوجد تلك اللوحة المحببة تملأه وكأن أحدهم قام بتغيير شريحتي القلبية ووضع مكانها شريحة أخرى بعدما حمّلها بمعلومات مختلفة تماماً، فما عاد في الشريحة الجديدة أثر لأي معلومات عن العيدية ولا طبق الفتة باللحم صباحية العيد ولا حتى الأحفاد الذين هم بهجة العيد والحياة نفسها، لا لا.. أظنني لمحتُ وجه أصغرهن في الطريق إلى منى ذهاباً أو عودة منها لأداء طواف الإفاضة، لست أذكر بالتحديد.. وحشتني هذه المفعوصة.
***
جاء العيد الكبير كما يجئ دائماً، تهب ذكراه في رحاب الكعبة المشرفة قبل أربعة أعوام فتُشيع في النفس هدوءاً وسكينة فلا يبقَى شيء من كل مشاعر القلق التي واكبَت الأيام العشرة.. لا يبقى سوى متعة خالصة. تفوح رائحة حساء اللحم الذكية لتكون في استقبال الصغار، وتستقر الشريحة القلبية القديمة في وضعها المعتاد فأتصرف كما هو متوقع مني بينما يأتي صوت ليلى مراد منشداً في الخلفية: يارايحين للنبي الغالي هنيالكم وعقبالي.