بينما أنت منهمك فى تصفّح مواقع التواصل الاجتماعى، لتضيف حفنة من الدولارات إلى ثروة «مارك زوكربرج» مؤسس «فيسبوك» أحد أهم وأنشط تلك المواقع. تذكّر مقولة هذا الشاب التى مفادها أن أكبر أنواع المخاطر هو عدم خوض أية مخاطر على الإطلاق فى عالم يتغير بسرعة كبيرة، وأن الاستراتيجية الوحيدة المضمونة للفشل تكمن فى تجنّب المخاطر.
قراراتنا اليومية العادية محفوفة بأنواع مختلفة من المخاطر، هناك مخاطر مالية وائتمانية تتعلّق بقرارات الإنفاق الاستهلاكى والاستثمار العقارى والمصرفى والبيع والإيجار والاقتراض والتنقّل بين الوظائف... وهناك مخاطر سوقية تتعلّق بتغير أسعار ما نملكه من أصول ومنقولات وعدم التصرف بسرعة بالبيع والشراء استجابة للتقلبات السعرية السوقية. كذلك هناك مخاطر صحية مرتبطة بقرارك الخروج من المنزل غير محصّن (نسبيا) من احتمالات العدوى وحوادث الطرق وتلوّث الهواء... فى الواقع لا يمكن حصر كل أنواع المخاطر التى يتعرّض لها الإنسان العادى فى يومه وليلته، فما بالك بمؤسسات ودول تعكف فيها فرق المختصين بمنظومة إدارة المخاطر، على رصد وتصنيف كل ما يمكن حصره من احتمالات وقوع الأضرار فى سجل شامل للمخاطر، يستحيل التعامل إلا مع أعظمها أثرا وأكثرها احتمالا للتحقق.
القدرة على اتخاذ قرار للتعامل مع المخاطر المتعددة التى يتعرّض لها الفرد والمؤسسة طوال الوقت هى التى تميّز أصحاب الثروات، وتمنحهم عائدا إضافيا لا يحصل عليه الآخرون. الفرق كبير بين إدارة المخاطر والشهية الكبيرة لخوض المزيد منها وبين المجازفة غير المحسوبة. فإدارة المخاطر علم وفن، وإذا لم يكن العائد من خوضها محسوبا بشكل دقيق، وكذلك الحال بالنسبة لأقصى ضرر محتمل من تحققها Value at Risk فإن تجنّب المخاطر ربما يكون القرار الأنسب، مع ما يمكن أن يتسبب فيه من أضرار ومن ضياع لفرص بديلة.
***
الرهان على فكرة جديدة فى صورة تطوير موقع على الإنترنت ــ مثلا ــ لتقديم خدمات يحتاجها عدد كبير من المستهلكين، كان رهانا رابحا فى كثير من الحالات. فقد خاطر طلاب وخريجو الجامعات الكبرى بمستقبلهم المهنى المضمون فى وظائف مرموقة بشركات عالمية، لكى يؤسسوا مشروعا صغيرا برأسمال محدود، سرعان ما تحوّل إلى مؤسسة عظمى تتخطى إيراداتها السنوية موازنات دول ناشئة مجتمعة! من ذلك ما قام به مؤسس «فيسبوك» ابن التسعة عشر ربيعا، الذى كان يدرس فى عامه الدراسى الثانى بجامعة هارفارد، عندما قام بإنشاء موقع للتواصل بين طلاب الجامعة، سرعان ما اكتسب زخما وشعبية جعلته يخرج إلى جامعات أخرى فى عام 2004. كان المشروع ينمو ويتطور بمساعدة مجموعة صغيرة من زملاء «مارك» المتميزين، حتى حصل على أول استثمار حقيقى من «بيتر ثايل» أحد مؤسسى «باى بال» PayPal الذى خاطر بالاستثمار فى هذا المشروع الناشئ. ولو أنه تأخر فى اتخاذ هذا القرار بضعة أسابيع لضاعت عليه عائدات على الاستثمار تقدّر بالمليارات، حيث القيمة السوقية لفيسبوك تقدّر اليوم بنحو 1.2 تريليون دولار.
خوض المخاطر يعلمنا كيف تحوّل ثلاثة أفراد من تأجير المراتب بشقتهم المستأجرة لكسب بضعة دولارات، إلى تأسيس شركة قيمتها 10 مليارات دولار هى شركة «إير بى إن بى» AirBnB. فى العام 2007 لم يستطع «براين تشيسكى» و«جو جيبيا» دفع إيجار شقتهم فى مدينة سان فرانسيسكو. كان فى المدينة مؤتمر للتصميم امتلأت بقاصديه غرف كل الفنادق، فابتكرا فكرة لتأجير ثلاثة أسرة هوائية مطروحة على أرضية غرفة معيشتهما، مع تقديم خدمات الإفطار للضيوف! فى سبيل ذلك قاما بتطوير مدونة بسيطة لجذب المستأجرين، وبالفعل استأجر المراتب ثلاثة أفراد مقابل 80 دولارا للفرد. بعد نجاح متواضع استطاع المدونان جذب زميل غرفة سابق اسمه «ناثان» درس علوم الحاسب الآلى وانضم إلى المشروع بتطويره لموقع على الإنترنت.
أما موقع إنستجرام فقصة نجاحه تبدأ من شابين أحدهما هو «كيفن سيستروم» تخرج فى جامعة ستانفورد المرموقة، ثم عمل فى شركة جوجل الشهيرة وتحديدا فى التطوير المؤسسى وخدمات البريد الإلكترونى Gmail، وكان يمضى عطلات نهاية الأسبوع فى تطوير تطبيق يسمح بتحميل ومشاركة الصور، مع رصد مواقع التقاطها ومشاركة بعض الملاحظات أطلق عليه Burbn.
كان هذا الموقع البسيط سببا فى لقاء «كيفن» بـ«مايك كريجر» أحد مستخدمى تطبيق Burbn الذى أصبح فيما بعد شريكا لمايك فى تدشين موقع إنستجرام الأقل تعقيدا والأكثر شهرة وانتشارا. الشركة اليوم تقدّر قيمتها بنحو 102 مليار دولار.
أما «بن سيلبرمان» فقد نشأ لأبوين طبيبين وتخرج من جامعة ييل ليلحق بوالديه فى مهنة الطب عام 1999 لكنه أدرك سريعا أنه لا ينتمى إلى تلك المهنة على الرغم من وجاهتها الاجتماعية واستقرارها الاقتصادى. خاطر بن بمستقبله المهنى وعمل فى عدد من الوظائف غير المستقرة، منها شركة لتقديم الاستشارات فى العاصمة واشنطن، والعمل فى شركة جوجل، وتدشين تطبيق فاشل حتى راودته فكرة جديدة.
ففى العام 2009 بدأ هو وزميل الدراسة «بول سكيارا» وثالثهما «إيفان شارب» العمل على تدشين موقع إلكترونى يسمح لمستخدميه بإظهار تشكيلة من الأشياء المهتمين بها على لوحة تفاعلية واحدة.
خاطب بن شخصيا أول سبعة آلاف مستخدم لموقعه مشاركا إياهم رقم هاتفه، وعارضا عليهم تنسيق مقابلات شخصية معه! وفى عشاء عيد الشكر فكّرت صديقة بن فى اسم للموقع هو Pinterest. اليوم تقدّر قيمة الشركة التى يترأسها بن بنحو 35 مليار دولار.
فى العام 2002 قام «ريد هوفمان» بتوظيف فريق من قدامى زملائه فى شركتى سوشيال نت وباى بال للعمل على فكرة مبتكرة. بحلول شهر مايو 2003 كان «ريد» قد نجح فى تدشين موقع «لينكد إن» للتوظيف من غرفة معيشته، وأرسل دعوة إلكترونية لعدد 350 من معارفه للانضمام إلى محيط شبكته على الموقع، وإنشاء ملفاتهم الخاصة. كان نمو العمل بطيئا فى البداية لا يتجاوز عدد المشتركين 20 مشتركا فى اليوم الواحد أحيانا. لكن بحلول الخريف كان نشاط الموقع كافيا لجذب اهتمام «سيكويا كابيتال» لخوض مخاطر الاستثمار فى الموقع الناشئ. اليوم توظّف الشركة ما يقرب من 20 ألفا، وتحقق إيرادات سنوية بلغت هذا العام نحو عشرة مليارات دولار.
أما «ترافيس كالانيك» و«جاريت كامب» فقد كانا يشاركان فى مؤتمر بباريس، وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث، يتذمران من كثير من الأمور المزعجة فى الحياة ومنها صعوبة الحصول على سيارة أجرة! كانت هذه هى بداية جلسة عصف ذهنى أثمرت عن ابتكار مشروع النقل التشاركى الأشهر «أوبر» الذى أسست شركته فى مارس من العام 2009 وبلغت قيمتها السوقية أغسطس الماضى نحو 78.29 مليار دولار.
***
أما إذا أعجبك هذا المقال عزيزى القارئ، فلربما شاركته عبر تطبيق على هاتفك بدأت فكرة تدشينه عام 2007 على يد «جان كوم» و«براين أكتون» اللذين كانا يعملان معا فى موقع ياهو الشهير، وأزعجهما كثرة الإعلانات على الصفحات، فقررا المخاطرة بترك العمل فى ياهو، وأمضيا عاما من الاسترخاء بغير وظيفة قبل أن يفشلا فى الالتحاق بشركة فيسبوك، وفى النهاية وفقا فى العام 2009 من تدشين تطبيق الهاتف الشهير «واتس آب» مع الحرص على تقديم خدمات مجانية للتواصل، خالية من إزعاج الإعلانات ومحاولات جذب الانتباه. وفى 19 فبراير 2014 أعلنت شركة فيسبوك رغبتها فى الاستحواذ على «واتس آب» (التى رفضت توظيف مؤسسيها من قبل) مقابل 19 مليار دولار، فى صفقة كانت حينها الأكبر من نوعها، حيث بلغ العائد على الاستثمار الأولى لشركة سيكويا كابيتال فى أسهم واتس آب نحو 5000% نتيجة لتلك الصفقة!.
اما «إيفان سبيجل» و«ريجى براون» و«بوبى ميرفى» فهم ثلاثة أصدقاء جمعتهم زمالة دراسية، وأمضوا بعض اللقاءات يستكشفون مهاراتهم فى مجال ريادة الأعمال. وفى إحدى المرات قال «ريجى» محدثا صديقيه: «يا ليتنى أستطيع محو الصور التى أرسلها لتلك الفتاة» وجد «إيفان» أن تلك الفكرة البسيطة تساوى مليون دولار، فعمل ثلاثتهم من فورهم على تطوير تطبيق جديد وأطلقوا عليه «بيكابوو» Picaboo لكن لاحقا نشأ خلاف بين الأصدقاء تسبب فى استبعاد «براون» من الشركة فى عام 2011 وتغير اسم التطبيق إلى سناب شات Snapchat. اليوم تبلغ القيمة السوقية لأسهم شركة سناب شات ما يزيد على 100 مليار دولار.
كذلك نشأ موقع تويتر للتواصل الاجتماعى من خلال جلسة عصف ذهنى استغرقت يوما واحدا لأعضاء مجلس إدارة إحدى شركات النشر الموسيقى على الإنترنت كانت تسمى «اوديو». أسفرت الجلسة عن قيام الفتى «جاك دورسى» الطالب حينها بجامعة نيويورك بطرح فكرة قيام شخص باستخدام خدمة الرسائل القصيرة للتواصل مع مجموعة محدودة من الناس. الشركة المالكة للموقع تقدّر قيمتها اليوم بنحو 4.4 مليار دولار.
كانت تلك جولة سريعة بين مجموعة من المشروعات التى نشأت عن فكرة مبتكرة ولدت من رحم مخاطرة محسوبة، تدرك طبيعة التطور، واحتياجات السوق، وتقدم على خوض تجربة جديدة لولاها لكان أوفر المبدعين حظا يعمل اليوم طبيبا أو مهندسا بأجر، عوضا عن كونه مؤسسا أو شريكا بشركة تقدّر أسهمها بمليارات الدولارات.