للسياسة فى أمريكا اللاتينية مذاق مختلف عن مذاقها فى إفريقيا أو مذاقها فى آسيا وكذلك الكتابة عن السياسة فى أمريكا اللاتينية وربما الكتابة عن كل شىء آخر فيها. مرة أخرى أجد نفسى مدعوا للكتابة عن حدث فى القارة يتطور ويهدد سكونا نسبيا واستقرارا عابرا، مرة أخرى أجد نفسى مستعدا لتأجيل ما بين يداى من مشاغل لألبى الدعوة. الحدث هذه المرة بالفعل يهدد سكونا نسبيا فى أنحاء القارة أعقب تطورا مفاجئا فى العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا. وقعت تطورات عديدة فى مواقع متفرقة من القارة ولكن لم يكن لأحدها أن يترك الأثر الذى يمكن أن يحدثه تطور الأحداث الراهنة فى فنزويلا.
معنى كلامى أننى أتوقع تدهورا فى الموقف بشكل عام. دفعنى إلى تكوين هذا الرأى ولا أقول اعتناقه أو بالأحرى التمسك به عناصر الصورة التى تشكلت عندى عن شبكة علاقات القوة الراهنة فى واشنطن. دفعنى أيضا إدراكى المتزايد لأهمية وخطورة صعود قوى يمين جديد فى كثير من أنحاء القارة بينما تزداد سرعة انحدار اليسار المنظم فى كل مكان. دفعنى ثالثا اقتناعى المتزايد بأن الوضع الدولى الراهن يمكن أن يساعد عناصر متهورة، أو يائسة، فى القارة وخارجها على اتخاذ سبيل العنف وليس التهدئة.
***
تذكرنى أحوال واشنطن، وبخاصة فى مجال صنع السياسة الخارجية بما قرأت عن مرحلة وصول دوايت أيزنهاور إلى منصب الرئاسة. جاء أيزنهاور إلى الرئاسة عن غير طريق الحزب الجمهورى بل ومن خارج الطبقة السياسية الحاكمة برمتها. عرف أنه سوف يلاقى صعوبات فى توجيه دفة السياسة الخارجية خاصة وأنه لم يكن وهو فى منصبه العسكرى وكقائد للحلف الأطلسى راضيا تماما عن بعض سياسات الرئيس هارى ترومان وبخاصة دخوله الحرب الكورية. إلا أنه وخشية اتهامه بقلة الخبرة ما إن تولى الرئاسة حتى شكل ثلاث فرق من المخططين والدبلوماسيين إحداها يضم جورج كينان وظيفته وقف تدهور مكانة أمريكا فى الحلف الغربى والتعامل مع القوى الجديدة الصاعدة فى عالم السياسة الدولية مثل الدول حديثة الاستقلال، الفريق الثانى ويهتم بدعم القوة النووية الأمريكية كرادع قوى للتوسع السوفييتى. أما الفريق الثالث فوظيفته التخطيط لإسقاط حكومات دول خاضعة لروسيا والعمل على تغيير نظام الحكم فى الصين والضغط على حلفاء أمريكا للمساهمة فى تكاليف الحلف الغربى. تعمل الفرق الثلاث مجتمعة بصفة يومية لتقديم المشورة لرئيس الدولة. هكذا اطمأن الرئيس أيزنهاور إلى أنه لن يكون خاضعا لتيار معين فى أخذ المشورة ومتفاديا اتهامه بأنه لا يحترم آراء الخبراء والدبلوماسيين ذوى الخبرة والتجربة. هكذا أيضا لم يسجل على عهد أيزنهاور أنه نفذ سياسات خارجية متناقضة وهو أحد الاتهامات التى توجه حاليا للرئيس دونالد ترامب. فالرئيس الحالى على عكس أيزنهاور تصرف بغرور فائق مع معظم قضايا السياسة الخارجية واستخدم مستشارين لم يشهد التاريخ لأكثرهم بالتميز أو الأمانة فى حقل السياسة الخارجية.
***
تدل المواقف والسياسات الأمريكية المتخذة فى الآونة الأخيرة ضد فنزويلا على أن الرئيس ترامب لم يهتم بالمسألة الفنزويلية قدر اهتمامه بقضايا أخرى مثل البريكست ومؤتمرات المناخ وانتخابات فرنسا الرئاسية ودعم مرشحى التيار الشعبوى فى دول أوروبا وتأييد من يطلق عليهم الرجال الأقوياء فى دول العالم النامى. صحيح أنه مثل معظم رؤساء أمريكا الذين لا يلتفتون إلى جوارهم إلا متأخرين فضلا عن أنه ليس من صفاته الاهتمام بقضايا مثل عجز الديمقراطية وانتشار الفساد. لم يؤنب حاكما على سلوك أو سياسات تنم عن نوايا تسلط أو ميول للعنف والقمع ولم يتخذ إجراء واحدا ضد المخالفين للخط الديمقراطى أسوة بما كان يفعله الرئيس باراك أوباما. لم نسمع من قبل ترامب مدافعا عن الفقراء أو منتقدا فجوة اللامساواة فى الدخول.
فجأة وجدنا إدارة الرئيس ترامب تتخذ مواقف تجاه حكومة مادورو فى كراكاس. بدت هذه المواقف والسياسات الناجمة عنها كما لو أن لا علاقة للرئيس ترامب بها. بدت لى على الأقل مواقف وسياسات «لا ترامبوية»، أى لم تصدر عن الرئيس ترامب. أو فلنقل إنها صدرت عن مستوى فى حكومة ترامب أقل من المستوى الذى تعودنا عليه منذ وصول ترامب إلى الحكم. أما ترامب نفسه ففى ظنى أنه أحيط علما فى مرحلة متأخرة. بمعنى آخر أعتقد أن ترامب الذى كانت تغريدته أول إشارة عن موقف أمريكى فى قضية سياسية وأول تكليف للدبلوماسية أو غيرها من أجهزة الدولة لتتحرك وتنفذ، لم يتدخل بأسلوبه المعتاد فى هذه القضية.
***
إذا لم يكن الرئيس ترامب وراء قرار التدخل فى فنزويلا وأن تكون فنزويلا قضية فى السياسة الخارجية الأمريكية، فمن كان؟ المرشحون كثيرون. منهم أفراد ومنهم مؤسسات ومنهم مذاهب دينية. أخص بالذكر، جون بولتون، أسوأ شخصية فى بلاط الرئيس ترامب. أذكر أنه يوم عين طلبت من أصدقاء فى عديد من الدبلوماسيات العربية أن يحتاط الشباب فإبليس المتخفى تحت اسم جون بولتون استلم حافظة الأمن القومى فى البيت الأبيض. لا أحترمه فليس فى سلوكه وأفكاره وتاريخه ما يستحق الاحترام. هو العضو الأشد وحشية فى مجموعة ارتكبت أشنع جريمة حرب حين خططت لشن حرب لتدمير العراق. نفذت الخطة وأذلت العراق. المجموعة لم تجد من يحاكمها دوليا لأن الرجال الذين توالوا على حكم بغداد يرفضون فتح ملف جرائم الحرب التى ارتكبها الجيش الأمريكى وأجهزة المخابرات والمرتزقة فى العراق. جون بولتون متهم بالعنصرية وكره العرب والفلسطينيين بخاصة والمسلمين والسود على وجه العموم والمهاجرين من أمريكا اللاتينية. كان هو الذى ألمح قبل يومين إلى أن الجيش الكولومبى قد يتدخل فى فنزويلا لدعم الرئيس الذى عينته الولايات المتحدة ولكن بحجة وقف غزو المهاجرين من فنزويلا. هو أيضا من يدعو الآن لعقد اتفاقية دولية تجدد وتحدث قاعدة مبدأ مونرو، تاريخه شاهد عليه.
كان هناك أيضا مايك بنس وأليوت أبرامز ومارك روبيو. قام بنس وهو نائب للرئيس بدور رئيس فى إطلاق الحملة ضد فنزويلا. ولا يحتاج المراقب من الخارج لتفكير طويل ليقرب أن وراء الحملة مصالح مذهبية تتعلق بنشر المذهب البروتستانتى فى قارة أمريكا اللاتينية. نائب الرئيس مستعد للذهاب إلى بعيد جدا ليضمن استمرار ولاء الجماعة الإنجيلية للرئيس ترامب. من ناحية أخرى ما كان يمكن أن يقوم نائب الرئيس والمستشارون بخطوة فى هذا الاتجاه يسبقون بها الرئيس إلا إذا كانت أجهزة الاستخبارات تبارك هذا الجهد فى موقع لها فيه خبرة وتخصص بل وجيوش.
***
القارة منقسمة والعالم الخارجى أيضا. بوليفيا والمكسيك وأوروجواى وكوبا، أى رموز اليسار فى أمريكا اللاتينية تقف ضد الحملة وإن عبرت فى مناسبات سابقة عن اعتراضها على أسلوب الرئيس مادورو فى إدارة الحكم والاقتصاد. مع ذلك لا أحد ينكر أن الحصار الاقتصادى الذى فرضته أمريكا على فنزويلا سابق بكثير على الأزمة الحالية. كان معلوما وما يزال أن الدعم الفنزويلى لكوبا وبوليفيا شجع تيارات يسارية على الصمود فى وجه الهجمة اليمينية على القارة. على الجانب الآخر تقف أهم دول فى أمريكا اللاتينية باستثناء المكسيك ضد حكومة مادورو وهى شيلى والارجنتين والبرازيل وكولومبيا. ولا يخفى دور كندا فى هذا الصدد.
فى الخارج وقفت دول عديدة فى الاتحاد الأوروبى تؤيد الموقف الأمريكى بينما وقفت الصين وروسيا وتركيا وإيران مع مادورو. هذا الانقسام فى المواقف الدولية بالإضافة إلى الانقسام داخل أمريكا اللاتنية يمكن أن يزيد الأمر تعقيدا إذا ما قررت الولايات المتحدة دفع قوات من المرتزقة أو من كولومبيا والبرازيل للتدخل لحماية الرئيس الجديد. قيل إن السلاح موجود بوفرة وأن الطرفين شكلا بالفعل ميليشيات مسلحة وبالتالى الفرصة متاحة ومثالية لحرب أهلية يمكن ببعض التدخلات من الخارج أن تتحول إلى حرب إقليمية.
***
مرة أخرى فى عهد ترامب ينكشف ضعف الولايات المتحدة. مرة أخرى نسأل إلى متى يتحمل النظام الدولى تكلفة حال الارتباك الذى يهيمن على البيت الأبيض وعلى الأداء الأمريكى بصفة عامة فى حقل السياسة الخارجية.