سقوط وعد بلفور الثانى.. مقدمة لميلاد عالم جديد! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 12:25 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سقوط وعد بلفور الثانى.. مقدمة لميلاد عالم جديد!

نشر فى : الإثنين 31 أكتوبر 2022 - 7:10 م | آخر تحديث : الإثنين 31 أكتوبر 2022 - 7:10 م

اعتُبِرَت الحرب العالمية الأولى (1914ــ1918) بداية لعالم جديد؛ فلقد شكلت نهاية الأرستقراطيات والملكيات الأوروبية، ومنها ولدت الحركات الأيديولوجية الأولى كالشيوعية، فكانت المؤجج للثورة البلشفية (1917) فى روسيا، ومنها نشأت الصراعات المستقبلية كالحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق، ومن أهم تداعيات هذا النظام العالمى الجديد، صدور وعد بلفور فى 2 نوفمبر 1917، أصدره آرثر جيمس بلفور ــ وزير خارجية المملكة المتحدة ــ ووجَّهه إلى اللورد ليونيل دى روتشيلد ــ أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودى البريطانى ــ وذلك لإهدائه للاتحاد الصهيونى لبريطانيا العُظمى، وفيه دعمت الحكومة البريطانية تأسيس «وطن قومى» لليهود فى فلسطين التى كانت منطقة عثمانية ذات أقليّة يهوديّة، ونص الوعد:
«تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومىّ للشعب اليهودىّ فى فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر».
تميَّزت صياغة هذا النص بكثير من الغموض والخدع، فقد تعمد مُحرروه خلق «شرك لغوى» لجعله مادة خلافية بين أطراف النزاع، وليس حلا لهم كما هو مفترض، وقد تشابهت نوايا صياغته مع نوايا صياغة قرار مجلس الأمن رقم 242 (1967) الذى نص فى النسخة العربية على «الانسحاب من الأراضى العربية» (مُعرَّفة بـ«ال») ، بينما نصت الإنجليزية على نفس الصيغة مع حذف أداة التعريف «أراضٍ عربية» (Withdrawal from Arab lands) ، وذلك لخلق فجوة فى المعنى المقصود للقرار الأممى بين النسختين العربية والإنجليزية، وبذلك يصبح النص مُختَلَفا عليه للأبد، ويساعد على نسيان المشكلة الأصلية التى صدر من أجلها القرار، وهو تحرير الأراضى المحتلة فى 1967!
• • •
لهذا نرى ضرورة تحليل نص إعلان بلفور لغويا، فقد استخدم صائغوه نظرية أرسطو فى الإقناع (Persuasion) ذات الأضلُع الثلاثة: 1ــ التأثير العاطفى (Pathos) 2ــ التأثير الذاتى أو (الأنا) (Ego) 3ــ التأثير المنطقى (Logos) .
من الملفت للنظر أن الجزء الأول للوعد بدأ بالتأثير العاطفى كدعم معنوى للصهيونية: «تنظر حكومة صاحب الجلالة «بعين العطف» (...) للشعب اليهودى»، ثم تلاه بالثأثير الذاتى للمملكة (الأنا) كدعم سياسى قوى: «وستبذل (المملكة) غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية»، وبين الدعمين المعنوى والسياسى، ذُكر التبرير المنطقى أو القانونى (Logos) ، أولا بتعبير «عام»: «إقامة وطن قومى» (national home) ، ولم يكن لهذا المصطلح أى سابقة فى القانون الدولى، وقد ذُكِر غامضا عمدا دون الإشارة إلى إقامة «دولة» يهودية فى فلسطين، فضلا عن أنه لم يتم تحديد حدود فلسطين، فتعبير «فى فلسطين» يشير إلى أن «الوطن القومى لليهود» المُشار إليه لا يُقصد به أن يُغطى كلَّ فلسطين، وثانيا بمحاولة إيجاد تبرير موضوعى، فبرر أصحاب الإعلان موقفهم بمنطق مزيف عن فلسطين، فادعوا أنها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»!
أما فيما يخص الجزء الثانى من الوعد، فقد كُتب بأسلوب «براجماتى» لإرضاء من سيعارضون هذه السياسة، ولتحقيق الهدف دون إثارة غضب أهل فلسطين؛ فقد تنبأ البعض ــ ومن أهمهم حاييم وايزمان أشهر شخصية صهيونية فى التراث الصهيونى بعد تيودور هرتزل، وأول رئيس لدولة إسرائيل فى عام 1949ــ أن الإعلان سيشجِّع على معاداة السامية الموجهة ضد اليهود فى كل أنحاء العالم، ولهذا أكَّد الإعلان على حماية الحقوق المدنيّة والدينيّة للعرب الفلسطينيِّين الذين كانوا يشكلون الأغلبية العُظمى من سكان فلسطين، وهو ما لم يحدث! هذا جوهر الخطاب «النفعى» لوعد بلفور الذى يكشف طبيعة العقل الصهيونى من مجادلة ومراوغة على مر التاريخ!
بعد مرور اثنتين وعشرين سنة، وقبل إعلان تأسيس الدولة العبرية (1948) ، شعرت الحكومة البريطانية بخطورة تبعات وعدها على مستقبل العلاقات العربية البريطانية، وأن قرارها سيكون فى المستقبل مادة أساسية لانتشار الإرهاب والكراهية فى العالم الغربى، لأنه كما يقول الشعار المنطقى المشهور الذى يرد على شعارهم المزيف سابق الذكر: «وعد من لا يملك لمن لا يستحق»، وعليه اعترفت الحكومة البريطانيّة عام 1939 أنه كان من المفترض أخذ آراء السكان المحليين (الفلسطينين) بعين الاعتبار، ولم تتوقف بريطانيا عند هذا الحد، ولكن بعد مرور نحو سبعين عاما من اعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل، اعترفت للمرة الثانية عام 2017 بأنه كان ينبغى أن يدعو الإعلان لحماية الحقوق السياسيّة للعرب الفلسطينيِّين!
ولنا أن نتساءل، لماذا هذه المراجعة البريطانية التى أتَت بعد فترات طويلة من وعد بلفور؟ للرد على هذا التساؤل لا بد من معرفة أسباب صدور هذا الوعد المشئوم، فمن المعروف أنه بعد إعلان المملكة المتحدة الحرب على الدولة العثمانية (1914) ، بدأ مجلس وزراء الحرب البريطانىّ فورا النظر فى مستقبل فلسطين، وبحلول أكتوبر 1917، قبيل إعلان بلفور، وصلت بريطانيا فى الحرب العالميّة الأولى إلى طريق مسدود، إذ لم تشارك حليفتيها بالحرب بشكل كامل؛ فالولايات المتحدة رأت أنها لا تعانى من ضرر كبير بسبب الحرب، وكذلك كانت روسيا فى خضم ثورة 1917 بما لا يسمح لها بالتدخل فى هذه الحرب.
فى نفس الوقت، قام الدكتور حاييم وايزمان (أستاذ الكيمياء) بتطوير مادة «الأسيتون» لتصبح مادة مهمة فى التخمر الصناعى مما ساعد فى إنتاج مادة «الكوردايت» شديدة الانفجار التى ساهمت فى تصنيع الأسلحة الفتاكة؛ وكما كان للقنبلة الذرية ــ فيما بعد ــ القول الفصل فى إنهاء الحرب العالمية الثانية، فإن مادة «الكوردايت» كان لها أيضا القول الفصل فى إنهاء الحرب العالمية الأولى، وكان لها الدور الأهم فى زيادة اعتناء الحكومة البريطانية بوايزمان الذى رفض تقاضى مقابل لاختراعه «الكوردايت» فى سبيل دعم بريطانيا لإقامة وطن لليهود، ولذا كلفه بلفور بتقديم مشروع إعلان «الوطن القومى» بالاشتراك مع اللورد ليونيل دى روتشيلد؛ ومن ناحية أخرى، كان لوايزمان تأثيرا قويا على يهود الولايات المتحدة لدفع الأخيرة على المشاركة فى الحرب العظمى لمساعدة بريطانيا وحُلفائها.
هكذا تتضح لنا أسباب صدور وعد بلفور الذى أطلقنا عليه «الوعد الأول»، وأنه نتج عن وضع سياسى وعسكرى متأزم لبريطانيا فى أثناء الحرب العالمية الأولى، فلجأت للصهيونية العالمية تطلب الدعم منها، ومنذ ذلك التاريخ، يعتقد كثير من الناس والدول والحكام أن اللجوء إلى إسرائيل فيه حل لمشاكلهم، ودعم لوجودهم، وهذا على عكس الحقيقة كما سيتبين لنا لاحقا.
• • •
قُبَيل نهاية الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، ومع ظهور جائحة كورونا، وإحساسه بإمكانية خسارته فى الانتخابات الرئاسية ضد منافسه جو بايدن، كَثَّف ترامب مِنَحَه السخيِّة لإسرائيل لكسب دعمها، فأَعلن اعترافه بضم مرتفعات الجولان السورية لإسرائيل، وأمَر بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وأعلن اعتراف حكومته بأن القدس عاصمة لإسرائيل...، متحديا بذلك كل القوانين الدولية، هكذا يُعيد ترامب سياسة بلفور، ويُكرر «العطاء ممن لا يملك لمن لا يستحق»! ولكن هذه المرة تفشل هذه السياسة للمرة الأولى فى تحقيق أهدافها، ويخسر ترامب معركة الرئاسة، رغم إعلان إسرائيل أن ترامب أعظم صديق لإسرائيل، وأنه أعطاها أكثر بكثير من أى رئيس أمريكى سابق!
وبالمثل، بعدما أُختيرت ليز تراس ــ الملقبة بـ«حرباء السياسة» ــ رئيسة للوزراء، شعرت بأن مهمتها صعبة، وأن بلادها تمر بأزمة اقتصادية وسياسية مشابهة تماما لوضعها أثناء الحرب الأولى، فلجأت لسياسة بلادها القديمة بالبحث عن دعم من يهود بريطانيا، وهى بذلك ينطبق عليها المثل الشعبى: «عندما يُفلس الخواجة يبحث فى دفاتره القديمة»! فأعلنت ــ فى أول أيام اعتلاء منصبها المعدودة والمعدومة الأثر ــ عدة إجراءات لدعمهم، علما بأنها أُختيرت لتحقيق مهمة محددة لإنقاذ بلادها من انهيار اقتصادى!
هكذا بدلا من البحث عن حلول اقتصادية واقعية، استعادت سياسة بلفور القديمة التى مرّ عليها أكثر من مائة عام! فتُعلن ما أسميناه «وعد بلفور الثانى»: «تَعِد» بدراسة منح القدس عاصمة لإسرائيل، مثلما فعل ترامب، فتلقى نفس مصيره فى فضيحة كشفت عن ضعف كبير فى أداء مهمتها الاقتصادية، وعن غباء سياسى يتمتع به الآن أغلب قادة أوروبا الغربية بأدائهم الهزيل وخضوعهم الكامل للولايات المتحدة (المستفيد الوحيد) حتى اليوم من الحرب الروسية الأوكرانية! وفى نفس الإطار، لا يفوتنا الإشارة إلى تراجع الحكومة الأسترالية عن اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، علما بأن أستراليا دولة تابعة للتاج البريطانى!
وللأسف الشديد، لم تعِ بعض الدول العربية أن نظرية الاحتماء بالصهيونية بدأت معالم سقوطها، وتعتقد أنه باعترافهم المجانى بإسرائيل سيتحقق لهم الأمن والأمان لشعوبهم ولحكمهم لدولهم، فالمراقب لسياسة إسرائيل الحالية يُلاحظ أنها مضطربة، وأنها فى حاجة لمن يدعمها، فنجدها تبتعد رويدا رويدا عن حُلفائها التقليديين، ولا تستجيب لمطالبهم، وإنما تسعى لمصالحها الخاصة فقط، ضاربة بعرض الحائط أيَّة اعتبارات أخرى، فهدفها الوحيد هو محاولة الحفاظ على وجودها!
ومما يُثبت صحة وجهة نظرنا، أن إسرائيل لم تنفذ القرارات الدولية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا! وكذلك لم تستجب لدعوات زيلينسكى ــ رئيس أوكرانيا ــ بإرسال أسلحة لمساعدة بلاده فى حربها ضد روسيا، بل قام رئيس وزراء إسرائيل بأكثر من زيارة لروسيا، وبمقابلة الرئيس الروسى بوتين ليؤكد «حياد» إسرائيل نحو الحرب، وهذا ما كشف عنه أخيرا زيلينسكى! فكيف لإسرائيل أن تُدين اعتداء روسيا على أوكرانيا واحتلال أراضيها وهى معتدية ومُغتصبة لأراضى الغير فى فلسطين؟!
وعليه، يجب على حُكام العالم العربى أن يتنبهوا بأن موازين القوى العالمية تنقلب رأسا على عقب، وأن إسرائيل لا ولن تستطيع دعم أى سلطة أو دولة أو حاكم، إذا كانت مصلحتها تتعارض مع ذلك؛ فهى دولة ضعيفة لأنها تعرف أنها دولة مغتصبة لحقوق الآخرين، وتعلم حقيقة أن «القوة فى الحق»، مهما طال الزمن، وأن «الضعف فى الباطل»، وأنه «لا يصح إلا الصحيح» فى النهاية، فهل نستوعب فى عالمنا العربى الدرس الجديد بأن المعطيات الحالية ومدلولاتها تشير إلى أن سقوط ما أسميناه «وعد بلفور الثانى» هو مقدمة لسقوط الوعد الأول، وميلاد عالم جديد؟!

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات