تمر ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، اليوم 11 ديسمبر؛ حيث ولد أديب نوبل في بيت القاضي بحي الجمالية العريق، الذي ارتبط به قلبه ارتباطًا وثيقًا. وقد عبّر عن هذا التعلق بقوله: "هذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جدًا، أشبه بنشوة العشاق. كنت أشعر دائمًا بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي. حتى عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلى العباسية، كانت متعتي الروحية الكبرى هي أن أذهب لزيارة الحسين".
وأفضى نجيب محفوظ بحديث مطول عن الجانب الروحاني من حياته في حوار أجراه الكاتب رجاء النقاش، ونُشر ضمن فصول كتابه "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" الصادر عن دار الشروق.
- صلة ممتدة بالقرآن الكريم
يقول نجيب محفوظ: "لم أقرأ في حياتي كتابًا واحدًا أكثر من مرة باستثناء كتاب واحد هو القرآن الكريم. قرأت القرآن منذ الصغر، وتعلقت به وما زلت أقرأ فيه بشكل يومي ولو أجزاء قليلة. قرأت كذلك كتب التفاسير، خاصة تفسير القرطبي وسيد قطب، وإن كان أكثرها راحة وسهولة بالنسبة لي هو منتخب التفاسير الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية".
ويضيف: "وترجع عادة عدم قراءتي للكتاب الواحد أكثر من مرة إلى أنني بدأت تثقيف نفسي ثقافة أدبية في وقت متأخر نسبيًا، وتحديدًا بعد عامين من تخرجي. كان الوقت أمامي ضيقًا، وكان علي أن أقرأ كل ما يقع تحت يدي وكل ما يتعلق بالأدب، وهو كثير. ومن هنا لم يكن لدي الوقت لإعادة قراءة ما سبق أن قرأته، حتى ولو نال إعجابي أكثر من غيره. فقد كنت أعتبر ذلك ترفًا لا أقدر عليه ولا يسعفني الوقت لأدائه، وهذه خطة لم أحد عنها أبدًا".
وتابع محفوظ: "أما علاقتي بالقرآن الكريم، والتي بدأت في وقت مبكر من حياتي، فإنها توطدت أكثر بعد تعلقي بأصوات كبار القرّاء في ذلك العصر، خاصة الشيخ علي محمود، الذي كان يملك صوتًا موازياً للوطن. إذا كان مشهد الوطن يحرك مشاعرك، فكذلك كان صوت الشيخ علي محمود في ترتيله للقرآن. واعتدت على حضور ليلة حفني الطرزي التي يحييها الشيخ علي محمود في أيام مولد سيدنا الحسين، وأظل ساهرًا حتى مطلع الفجر مبهورًا بصوته المعجز. وكنت أداوم على سماعه في الوقت المخصص له بالإذاعة، وفي الذكرى السنوية لوفاة سعد زغلول كان يُقام سرادق ضخم، وفي الغالب كان يحييه الشيخ علي محمود أو الشيخ البربري".
وأضاف: "كان الشيخ البربري، ولا أتذكر اسمه كاملًا، له طريقة فريدة في ترتيل القرآن، لم أسمعها من قارئ قبله أو بعده. فهي طريقة أقرب للخطابة، ولكن بشكل جميل ومؤثر. وقد كان للقرآن وأسلوبه وموسيقاه العذبة أثر كبير في أسلوبي في الكتابة، وظهر ذلك بشكل واضح في أحاديث الصباح والمساء، والتي قال عنها الناقد الدكتور محمد حسن عبد الله إنها تسير على نفس المنهج الذي سارت عليه قصص القرآن".
- سورة الرحمن
أما عن السورة التي تركت أثرًا خاصًا في نفسه، فيقول محفوظ: "أكثر سور القرآن التي سحرتني بموسيقاها وأسلوبها هي سورة الرحمن. أتذكر أن صحفيًا أمريكيًا جاء إلى القاهرة ليُجري معي حديثًا، وسألني عن علاقتي بالقرآن وتأثيره عليّ وأسئلة أخرى، ثم سافر عائدًا إلى بلاده. وبعد بضعة أيام، فوجئت برسالة بريدية منه يخبرني فيها أنه نسي سؤالًا هامًا ويريد مني الإجابة عنه. وكان السؤال: ما أحب سور القرآن إلى نفسك؟ وأرسلت له الإجابة: إنها سورة الرحمن".
ويضيف محفوظ: "عندما وضعت لنفسي برنامجًا للتثقيف الذاتي في بداية حياتي، كان جزء كبير من هذا البرنامج يتعلق بدراسة الديانات الكبرى، وتاريخ الحضارة، والفكر الإنساني. لذلك قرأت الكتاب المقدس بإمعان، وكان من مصادر إلهامي التي اعتمدت عليها في كتابة رواية أولاد حارتنا. كما أنني اقتبست منه قصة أيوب التي تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي قام ببطولته عمر الشريف. وهناك اختلافات كبيرة بين قصة أيوب في الكتاب المقدس وقصة أيوب التي كتبتها، إلا أن المصدر الرئيسي الذي أوحى لي بكتابتها كان ما جاء عنها في الكتاب المقدس".
- فلسفة الجمال في الإسلام
يقول نجيب محفوظ: "بلغ من تأثري بالقرآن والكتابات الإسلامية أنني اخترت لرسالة الماجستير، التي كنت أنوي إعدادها بعد تخرجي في قسم الفلسفة بكلية الآداب، موضوعًا عنوانه فلسفة الجمال في الإسلام. وعرضت الموضوع على أستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق، فوافق عليه وتحمّس له رغم جرأة الموضوع".
ويتابع: "كانت هذه هي المرة الأولى التي يقبل فيها أستاذ للفلسفة الإسلامية موضوعًا بهذه الخطورة، ولم يخشَ ما يمكن أن يجره عليه من مشاكل ومتاعب، خاصة بعد المتاعب التي تعرض لها المفكرون المستنيرون مثل طه حسين وزكي مبارك ومنصور فهمي. كنت أنوي تقديم صورة جديدة للإسلام، أظهر فيها اهتمامه بالجمال والتذوق والانفتاح على العالم، وأنه لم يدعُ أبدًا إلى الزهد والانغلاق. ولكنني لم أكمل مشروع دراسة الماجستير، لأنني انصرفت إلى الأدب وركزت جهدي كله في مجاله".