الدكتور مجدي نصار يكتب: جدلية السرد والشعر في (العُراة) - بوابة الشروق
الأربعاء 16 يوليه 2025 10:07 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

الدكتور مجدي نصار يكتب: جدلية السرد والشعر في (العُراة)


نشر في: الأربعاء 16 يوليه 2025 - 1:23 م | آخر تحديث: الأربعاء 16 يوليه 2025 - 1:23 م

في محاولة للخروج برواية تشبه القصيدة النثرية على مستوى الشكل، يقوم الكاتب إبراهيم عيسى في روايته "العُراة" – والتي أعادت "دار ريشة للنشر والتوزيع" نشرها هذا العام (2025) بعد خمس وثلاثين سنة من نشرها الأول – بتوزيع السرد في فقرات تتراوح بين القصيرة جدًا والقصيرة والمتوسطة وفوق المتوسطة، ونادرًا جدًا ما يتجاوزها إلى فقرة طويلة. وحتى تحقق السردية إيقاعها الشعري الخاص، يصنع عيسى نوعًا من التوازن بين الفقرات، يوزِّعها بطريقة تسمح بالكثير من مساحات البياض، يلجأ للتكرار "كان سر الخلق.. خلق السر" (ص: 35) / "ولا أحد. لا أحد يقترب مني ولا أحد يسألني عن جثتي الملقاة في الفناء" (41)، يعتمد على التكثيف دون استطراد "كانت ساعتها ترتدي مشد صدرها البيج، ثم قميصها.. بنطالها" (61)، كما يستخدم أنساقًا لغوية تُشرِق في سياقها الخاص وتخالف الأنساق التقليدية "لكن الإحساس بالخطر زال فظهرت خطورة الإحساس" (45)، محققًا بذلك بعضًا من سمات القصيدة النثرية كما فسرتها سوزان برنار في كتابها المؤسِّس "قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن".
ولا يعني ذلك أن الرواية خرجت شعرًا خالصًا دون أن تطرح نفسها كعالم روائي منغلق على ذاته ومكتمل في ذاته، صحيح أن الرواية في فصليها الافتتاحيين – الرواية كلها من إحدى عشر فصلا – سقطت في فخ سيطرة الشعري على السردي، فتقلصت مساحة الحدث أمام مساحة اللغة، حتى أنك لتكاد تقبض على حدثين أو ثلاثة فقط في مقابل كم كبير من الأنساق اللغوية المتنوعة التي لا تقدم ما هو أكثر من الحدثين (الثلاثة)، لكن الراوية بدءًا من فصلها الثالث تشيد عالمها شيئا بشيء، موقفًا سرديًا بموقف سردي، إذ ترسم المشهديات، تُقحم الذات الساردة في صراعات متتابعة مع الموضوع (العالم الممكن الذي تشكله الرواية)، تتكىء على الحدث المفجر في تصعيد الدراما الغرائبية، تصنع نوعًا من "التحفير الواقعي" عبر تحديد ملامح المكان والزمان (الوصف الفيزيقي لنادية لطفي وللمرأة التي ظهرت في غرفة السارد بعد عودته وللمرأة التي دخل السارد جسدها كقرص دواء / رسم مشاهد من البرزخ ومن الفيلمين / وصف الشوارع 53 / وصف محتويات الغرفة في الصفحة 42، ...إلخ) وعبر التطرق لعلامات معروفة في العالم الحقيقي (الرواية الأولى للكاتب نفسه / ميدان التحرير / المدينة الضاغطة ذات الليل المختلف والملامح المغايرة)، ثم تستمر الرواية في التنقل من موقف سردي إلى غيره، دون أن تتنازل عن الصبغة الشعرية – سواء في الحالة الشعورية للسارد أو في اللغة التي يسرد بها – وهي الصبغة التي حافظ عليها الكاتب على طول الرواية، ما يعني أن الرواية قدمت نفسها في البداية كشعرية سردية (يطغى فيها الشعر على السرد) ثم انتصبت وامتدت وانغلقت كسردية شعرية (يصبح فيها الشعر طابعًا انطبع به السرد أو أداة استغلها السرد أولًا في صناعة جماليته اللغوية الخاصة وثانيًا في التعبير عن ذات السارد – بكليتها – في مواجهة عالم غريب عاد إليه – السارد – بعد موت طويل).
يجتهد النص كثيرًا ليحقق الاتساق بين الشكل والمضمون، فالسارد العائد من الموت يتحرك في عالم ضبابي ومحايد، عالم برزخي، عالم بين-بين، بين الحياة والموت، واللغة بدورها تتأرجح بين الشعر والسرد، فتخرج في مرات (شعرية خالصة) لا تقدم جديدًا قدر ما تؤكد حالة بعينها، ويبدو المجاز فيها زخرفيًا تزيينيًا لا يستهدف أكثر من إصقال الحالة الشعورية، كما تقوم على الاختزال والاستغناء عن أدوات العطف أحيانًا، "المكان بلا هوية.. والهوية بلا عناوين.. والعناوين تحت الصور.. والصور بين أفخاذ الأكاذيب،" (35)، "كانوا كثيرًا.. كانوا جميعًا.. كانوا كلهم.. وكنت وحدي،" (35)، "كانوا فرادى.. جماعات.. صفوفًا.. كتلًا. / كانوا غموضًا.. وضوحًا.. طلوعًا.. دخولًا فيَّ،" (38)، "ثم تدحرج قلبي وسقط جواري على السرير ثم تهاوى من فوق الحافة،" (43). كما تخرج اللغة في مرات كثيرة (سردية خالصة) تعتمد على أدوات العطف وعلى الجمل القصيرة في تحقيق التتابع والتدفق والسيولة ولا تخلو بالطبع من الطابع الشعري: "أنهضوني من مقعدي، ولفوا عنقي، وغرسوا أظافرهم في عيني، وضربوا وجهي، وكسروا عظامي، وأناموا أحذيتهم في فمي، وحطموا سنتي الأمامية، ومزقوا ثيابي، ونزعوا صوتي...." (38)، "ثم تسلمت سيدة ثانية الرواية فمزقت صفحاتها الأولى فخلعت الفتيات قمصان نومهن،" (74)، "مر الزمن سريعًا أو بطيئًا فلم أكن أحسه.. كل ما كنت أراه الآن هو هذا التمدد المنتظم والانتفاخ المتوهج الذي يحيط بجسمي كله،" (89). لكن اللغة في الغالب تحقق مجازها الفعال وبلاغتها الخاصة المتسقة مع مقتضى الحال، فتجعل الشعر في خدمة السرد، أي أنها تخرج في مستوى بين-بين، مستوى هجين بين السرد والشعر، فالمجاز فيها لا يأتي مجانيًا أو جماليًا خالصًا، إنما يأتي دافعًا الحدث أمامه أو ساحبًا إياه خلفه أو حاملًا إياه على ظهره، محققًا بذلك "السردية الشعرية": "وكفِّي اليسرى تعبث في تجربة بكر لالتقاط الألم على فقرات الظهر،" (35-36)، "النهار يذهب ويجيء والليل يحط ويرحل والأصوات تخفت وتعلو والنوم نفسه يصحو والصحو ذاته ينام،" (41)، "وقفت محدقًا فيها بعشق لا قبل للعالمين بوصفه، ووصف لا محل لشرحه، وذوبان لا امتلاك لضبطه، وتفجر عواطف من الحنو والحب والإعجاب والانبهار والعبادة،" (79). على أن مستويات لغوية أخرى تتداخل مع المستويين السابقين، فلدينا (المستوى التقريري الخالص) والذي لا يظهر إلا لمامًا فيتعمد الكاتب – أحيانًا – وضعه بين قوسين ليقدم معلومات الخلفية ويكمل الصورة ويؤسس لواقع الرواية دون أن يكبح استرساله المصبوغ بالشعر: "جاءت الشمس منذ فترة – 46 / فيها شيء من الذكورة – 47). كما تتدخل العامية الخالصة والعامية الفصيحة في مواضع قليلة بهدف التخفيف من الحمولة الشعرية: "ماشي / طيب / خلاص / مات على نفسه من الضحك)، كما تظهر التساؤلات بين فينة وأخرى لتوائم حالة التيه التي يعيشها السارد في برزخه (حدقتُ في الوجود.. وقد تشابكت أصابعي حول ركبتي.. وتسائلتُ.. ما الحكمة فعلًا من لقائي بالقادمين من السماء؟ لماذا فعلوا بي أفاعيلهم؟" (55)، "أهو شبح أم حقيقة، ظل أم جسد، كائن أم خرافة، آدمي أم سماوي، موجود أم وهم؟" (56). يلجأ الكاتب للحوار في مواضع قليلة، لكنه ينتج حوارا مختزلا، تتجلى فنيته في وقوعه هو الآخر في مستوى بين اليومي المعتاد والشعري الفني، وتتجلى أيضًا في الجمل المختزلة التي تمثل علامات تحيل إلى دلالات بعينها، "مالَك؟ = أبدا (47)"، "مستعد؟ = قلت لا ثم استدركت.. لماذا؟ (57)"، يقول طبيب العيون للسارد الضائع في البرزخ: "لا شيء فوق يا عزيزي.. كله تحت،" (65) ويقول السارد لطبيب العيون: "لقد أغلقت كلها.. الدوائر محكمة يا طبيبي،" (68)، ما يحيلنا إلى وجود منقلب رأسًا على عقب، وجود ضاغط وواقع مزيف يتحرك لا وفق إرادة الإنسان، إنما يسير ضده دائمًا.
ولأن السارد يتحرك في عالم برزخي، يتحرك الكاتب داخل السرد مستكشفًا لا كاشفًا، أي أنه يسرد بنصف معرفة، وكأنه يفعل ذلك عن عمد ليجعل الكتابة تتحرك في برزخ يشبه برزخ السارد، لتفاجئه اللغة وتفاجئه الأحداث، فتنتقل المفاجأة للمتلقي، فالغرائبية ممتدة بطول الرواية، والسارد يتنقل من هول إلى هول "وضعت كفي على رأسي.. وأغمضت عيوني أمام الهول الجديد" (69)، يعود السارد من الموت، إلى المدينة التي كان يعرفها، لكنها تأخذ في التحول شيئا بشيء، ثم يتنقل السارد في عالم تترسخ برزخيته عبر المشهديات الغريبة: الكاتب يهدم المدينة القديمة ويؤسس لعالم جديد، يجعل الهامش مركزًا والمركز هامشًا، فالشارع "خلاء كامل وصمت مريب وغرابة ضاغطة (53)، والسارد يقتحم فيلمين سينمائيين، كبديل للبطلين، المدينة والبيت وكل شيء يطفو على ماء، الرجل الغربي الأبيض يضاجع دمية، الآلية والرأسمالية يفرضان واقعًا عجيبًا على العالم الحقيقي خارج الرواية وعلى العالم المحتمل داخلها، السارد يبحث عن شيء ضائع لا يعرفه، يتحول إلى قرص مضاد حيوي تبتلعه امرأة، هنا تدخل الراوية منعطفا عجائبيًا، يصبح فيه جسد المرأة هو كل العالم، كل السرد، كل المكان، وتصبح فيه شهوتها (للجنس وللتدخين وللطعام) هي زمن السرد وكل الزمن، فيحقق الجسد هنا فضيلته بوصفه شكلا للسرد (أرضية) وموضوعا له، يشتبك السارد مع هذا الجسد ومكوناته (كرات الدم البيضاء) والسوائل المتنوعة التي تدخله، ويتنقل بين أعضائه صعودًا وهبوطًا، حتى تلده المرأة من رحمها ليخرج إلى الوجود كمعجزة، طفلًا بملامح وفكر رجل ناضج، يخرج إلى الوجود العاري (ميدان التحرير)، لكن أحدا لا يعبأ به: "لم يعرن أحد اهتمامًا. لم يفه أحدهم بكلمة ضدي.. أو نحوي على الأقل. لم يغضبوا أو يسألوا. لم يشعروا أن شيئًا غريبًا يجري وأن عاريًا لا بد أن يُستر. وسؤالًا معلقًا لا بد له من إجابة.. كيف ومن أنا؟" (92)، لتتحقق بذلك (دائرية البنية السردية)، فقد بدأت الرواية بعودة من الموت ثم انتهت بميلاد في الحياة، ولتحقق هذه السردية البرزخية بلاغتها الكلية، كأن السارد لا يعود من الموت إلا ليعري ذاته ويعري الوجود والمجتمع (المؤسسات) والناس، عبر الحركة في برزخ كبير يتفتت إلى عدد من البرازخ الصغرى.
هذا السارد المستكشف يتقمص حالة البرزخي الضائع التائه المذهول، يقول: "أحسست أنني أنهض بظهري عن السرير. أحسست.. لكنني لم أصدق أنني أنهض فعلًا." (44)، يدفع الموج سريره للارتماء على "شاطيء يبدو بعيدًا لكنه موجود على عموم النظر" (46)، يسأل: "فهل أصحو من مئة عام نومًا على بحر؟" (46)، يضيف: "إنني أعرف هذا الوجه – وربما كنت أحبه – لكن لماذا لا أشعر به الآن؟ ما هذا الحياد المفاجيء؟" (48). وتصل هذه الحالة البرزخية إلى أوجها حين يقول السارد "انشطر وجودي نصفين.. نصف تحت الضوء المبهر الذي خزق عيوني.. ونصف عشته على ضفة ترعة خلفها الحقول تظهر في المشهد بيضاء برماديات خفيفة وشجرة وحيدة وأطياف خلفية،" (78-79) السارد هنا يرافقه ماضيه "حياته الأولى" في برزخه. كما أن هذه الضبابية (الشبحية) البرزخية تفتح أمام الكاتب فرصًا عديدة لخلق مشهديات غرائبية وفتح مساحات التخييل للكثير من التهيؤات والتكهنات والهلاوس والكوابيس والتأملات والتساؤلات، والمواقف الغريبة، فالمدينة غير المدينة والليل غير الليل والزمن غير الزمن، والضوء والظلال ليسا كما نعهدهما في الواقع، وقوس قزح يهبط في غرفة امرأة، والعالم يلامس عالمنا في بعض العناصر لكنه يختلف عنه تمامًا. بذلك تحقق الرواية صدقها الفني، الذي لا يساوي الصدق الحياتي أبدًا، إذ إنها تبني عالمها الخاص بمفردات خاصة، حتى وإن تشابهت مع مفردات الواقع لكنها تدخل نسيجًا جديدًا، نسيج (العُراة).
على أن السردية في غرائبيتها هذه لا تخلو من الإحالات إلى دلالات (واقعية) بعينها، عبر استغلال الرموز والمعادلات الموضوعية، التي تجعل هذا المتن يشتبك مع الوجود – بمختلف تجلياته – في خفة ودون أن يأتي الاشتباك زاعقًا يضع أيدولوجية في مواجهة أخرى بشكل مباشر. الرواية تغازل المقدس بالتلميح دون التصريح، تتطرق إلى سيرة يوسف النبي وإلى حوت يونس "أما أنا فحوتي إمرأة"، تتناول فيلم الخطايا تحديدا، كأنها تحيلنا إلى فكرة الوجود ذاته كخطية كبرى، هذا الوجود الذي تبدل وتغير وتحول إلى الأسوأ فتنازلت نادية لطفي عن حضورها الرومانتيكي البريء لحساب حضور صارخ لا يرضى السارد عنه. تشتبك الرواية مع الواقع السياسي دون إسهاب أو تفصيل: "عواصم تسقط وشوارع تغلق ومحطات إذاعة يُستولى عليها وبزات عسكرية تضج بالدم وجماهير محبوسة خلف النوافذ والجيش يملأ الشوارع والميادين وأفخاذ النساء.. وصدور البيان الأول يدعو الناس للهدوء ويحظر التجول،" (48-49) كما تشتتبك مع الاجتماعي والثقافي، متناولة ثنائية الشرق والغرب دون الوقوف عندها طويلًا، فالمرأة تقول للسارد (الشرقي): "إذا أحببتني ستطلب مني ألا أحب أحدا آخر،" والرجل الغربي يغدق علينا الدمى وأدوات التجميل وغيرها من مستحدثات، وميدان التحرير يعد معادلًا موضوعيًا لوجود معقد ومتشابك ومتسارع وعاصف بالإنسان. تتناثر المعادلات والرموز، فذبح الجياد بوحشية قد يحيلنا إلى توحش الرأسمالية وإلى بتر الصلة بين الحداثة والأصالة، وطبيب العيون الذي يصحح بصر السارد يعد معادلا للواقع الصخري الذي تتحطم عليه أحلام السارد ومثاليته العمياء، والأغاني الوطنية التي تٌعزف في حفل ماجن تحيلنا إلى ضياع القيمة ومعنى الأمة ومعنى التاريخ، وسخرية الماجنين من الرواية الأولى للكاتب ثم تمزيقهم لها ووصفهم لكاتبها بالأبله العبيط قد ينتج دلالة القهر الذي تمارسه الرأسمالية على المفكرين وطغيان القيم المادية على كل شيء معنوي وتمزيق التاريخ والإنسان، كما أن تعرية النسوة لأجسادهن مع سماع نشيد لوط قد يعادل تحويل الفطرة إلى شبق قاتل، والوجود في الرواية يتجلى بين دموي حينا وساكن/صامت حينا آخر، وهو في الحالتين وجود قاتل، مرة بالسيف ومرة بالصمت. المرأة التي تتزين أمام المرآة بكثير من مساحيق التجميل ولها عشرون ألف وجه (انعكاس) تشير إلى الزيف الذي تفشى في كل شيء وكان الجمال (الأنوثة) أكبر ضحاياه، والناس الذين تجاهلوا السارد المولود من جديد والعاري إلا من ورقة توت، يشيرون إلى وجود مرتبك، لا يدري أين يتجه، ولا يتأمل ما حوله، ولا يعير أحدًا اهتمامًا "وكانوا جميعًا سائرين كأن شيئًا لا يجري حتى ظننت أن لا شيء قد جرى حقًا." (آخر سطر بالرواية – ص:92).
الحكاية في هذه الرواية – الحكاية بوصفها مادة أولية للخطاب السردي – لا تشبه غيرها، ولا تبدو كلاسيكية، تؤسس عالمها الخيالي الممكن اعتمادًا على خامات الواقع وعبر الاتكاء على مساحات التخييل التي تسمح بها الحالة البرزخية المفروضة من البداية، فتنطلق الحكاية في مستويين، مستوى عام يمكن تلمُّس المكان فيه على أنه (البرزخ) والزمان فيه على أنه (التيه/الدهشة)، لكن السردية على المستوى الخاص تصنع بنية "زمكانية" خاصة، يتنوع فيها المكان (تبديل الواقع ونسف المدينة المعروفة وتأسيس أرضيات جديدة) ويتشظى فيها الزمن في خصوصه – حتى أن جسد المرأة (كما أشرنا سابقا) يصبح في ثلث الرواية الأخير هو كل المكان ويصبح فعل هذه المرأة هو كل الزمان "كنتُ سجينا بين أوردة متداخلة وراء قفص من العظام.. تحركتْ تحت ذكر عات غزا جسدها.. فاندلقتُ من مكان آمن إلى هذا القفص الذي تهدج وارتفع واشتعل انكسارا حين أطبقت عليه أصابع الرجل – بالتأكيد رجل – وضمها فيه فارتفعت أعضاؤها أو تداخلت له فرحتُ أنا الضحية مع تحركاتها المشتعلة وتفجرها البركاني." (83)
تتكيء السردية إذن على حكاية متشظية تشكل عالمًا جديدًا يقع في أكثر من مكان متخيل ويحركه عدد من الأزمنة المتتابعة المغايرة لأزمنة الواقع، تصر السردية أيضًا على استغلال الشعر من البداية للنهاية، تخضع لهذا الشعر في افتتاحيتها لكنها سرعان ما تقدم نفسها كحبكة سردية تتنقل بين السرد والتأمل والتصوير والتجسيد غير متنازلة عن المستوى الشعري في الحالة واللغة على السواء، وغير مهملة للأحداث – كحبكة متتابعة – لتخرج في النهاية كسردية شعرية.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك