اكتمل الوحي الإلهي بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، وذلك يوم عرفة في حجة الوداع للنبي محمد -صل الله عليه وسلم-؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان، مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه -صل الله عليه وسلم-.
وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسئولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى، وعلى مدار أكثر من 1000 عام ظهر تراث إسلامي زاخر بالكتب في التفسير، والحديث، والسيرة، والفقه، وغيرها من العلوم الشرعية.
وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.
الحلقة العشرون..
الإمام بن كثير.. المفسر الفقيه ومؤرخ السيرة الإسلامية
وفقًا لما ذكره المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فإن الإمام ابن كثير هو عماد الدِّين أبوالفداء إسماعيل بن عُمَر بن كثِير القُرَشي البُصرَوي الدمشقي الشافعي، وُلد سنة 700 هـ وقيل 701هـ، بقرية مجيدل جنوب شرق سوريا (درعا حاليًّا)، ونشأ في بيت علم، حيث كان والده شهاب الدين أبوحفص عمر بن كثير خطيب القرية، لكن توفي والده وهو في الثالثة من عمره، فتولَّاه شقيقه الأكبر الفقيه العالم كمال الدين عبدالوهاب، وكان لرعايته أثر في نشأته العلمية، حيث أتم حفظ القرآن الكريم وهو ابن 11 عامًا، وتعلم القراءات والتفسير.
وقد أورد الإمام ابن كثير، عن أخيه في كتابه البداية والنهاية، قائلًا: "وقد كان لنا شقيقًا، وبنا رفيقًا شفيقًا.. فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله تعالى منه ما يسر، وسهل منه ما تعسر".
وانتقل مع أخيه إلى دمشق، التي كانت مركزًا علميًا هامًا في العالم الإسلامي آنذاك، حيث استقر بجوار المدرسة النورية، وتلقى العلم على يد كبار العلماء والمشايخ مثل أبي القاسم ابن عساكر، والآمدي، وابن قاضي شهبة، وبرهان الدين الفزاري، والحافظ أبوالحجاج المزي الذي أعجب به وزوَّجه ابنته زينب.
ووفقًا لما أورده المركز، فقد كان ابن كثير واسع الصدر، وحسن الخلق، ومتميزًا في علوم وفنون متعددة، ومجتهدًا في طلب العلم والتحصيل.
وذكر المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، أن الإمام ابن كثير كان له العديد من المؤلفات البارزة، أبرزها كتابه الشهير «البداية والنهاية»، وهو موسوعة تاريخية شاملة، و«التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقاة والضعفاء والمجاهيل» في علم الحديث، و«الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث»، و«السيرة النبوية»، و«جامع السنن والمسانيد»، بالإضافة إلى «طبقات الشافعية» الذي تناول تراجم علماء المذهب الشافعي.
كما أشرف على عدة مدارس علمية، منها دار الحديث الأشرفية، والمدرسة الصالحية، والمدرسة النجيبية، والمدرسة التنكزية، والمدرسة النورية الكبرى، وعمل بالإفتاء، حتى وصفه شيخه الذهبي بـ"الإمام المفتي".
وفي أواخر حياته، كُفَّ بصره، ثم توفي يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان سنة 774 هـ، الموافق 1373م، عن عمر ناهز 74 عامًا، قضاها في طلب العلم والتدريس والإفتاء والتأليف، ودُفن بمقبرة الصوفية في دمشق.
تفسير ابن كثير.. منارة التفسير بالمأثور
تفسير ابن كثير هو أحد أشهر التفاسير الإسلامية، حيث يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين.
ووفقًا لما ورد في الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، فإن ابن كثير تميز بدقته في نقل الروايات وتحقيقه للأسانيد؛ مما جعله مرجعًا موثوقًا.
وبحسب ما ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، لم يقتصر ابن كثير على جمع الروايات، بل كان ناقدًا لها، ومحققًا للأحاديث، ورافضًا للإسرائيليات والمرويات الضعيفة.
كما جاء في "الدرر الكامنة" لابن حجر، فقد تصدى ابن كثير للتأويلات الفلسفية والباطنية، خصوصًا تلك التي تبناها المعتزلة والجهمية.
ووفقا لكتاب "تاج العروس" للزبيدي، فإن تفسير ابن كثير انتشر على نطاق واسع، وتُرجم إلى عدة لغات، وظل أحد المراجع الأساسية في فهم القرآن الكريم؛ نظرًا لمنهجه العلمي وأسلوبه الواضح.
اقرأ أيضا
المكتبة الإسلامية (19).. مسند الإمام أحمد بن حنبل أضخم دواوين السنة النبوية