يظل الكاتب الصحفي الأشهر محمد حسنين هيكل حاضرا دائما في الشأن الصحفي، والسياسي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتحليل المشهد العام، كما أن الرجوع للأحداث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر لا يمكن أن يتم بمعزل عن التوثيق الذي تميزت بها كتاباته.
وفي ذكرى ميلاده، والتي تحل بعد غد الثلاثاء، الموافق 23 سبتمبر، حيث ولد الجورنالجي في 23 سبتمبر من عام 1923، ورحل عن عالمنا في 17 فبراير من عام 2016، عن عمر ناهز 92 عاما.
تبقى مسيرة هيكل مميزة للغاية، ومليئة بالأحداث التي أبرزت موهبته الصحفية والتحليلية، وعلاقاته المختلفة والمتشعبة، التي جعلته صحفيا متماسا بشكل كبير مع السياسة، وعلى مدار كل العصور السياسية في مصر التي عاصرها.
خريف الغضب المثير للجدل
وأحد محطات مسيرة حسنين هيكل المهمة والمثيرة للجدل كانت كتابه الشهير "خريف الغضب.. قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات".
كانت علاقة هيكل والسادات متقلبة، حيث اتسمت في البداية بالتقارب الكبير والتأييد، ثم ما لبثت أن انقلبت إلى ما يشبه القطعية بعد انتصار أكتوبر، حتى أزاح السادات هيكل من رئاسة الأهرام، بعد 17 عاما على رأسها.
واستمر الشد والجذب؛ حتى دخل هيكل المعتقل بقرار من السادات، وذلك ضمن حملة اعتقالات شملت آلاف من الرموز السياسية من مختلف الاتجاهات، واكتملت يوم 5 سبتمبر 1981.
ولم ينته الشد والجذب بعد اغتيال السادات نفسه، حيث جاء كتاب «خريف الغضب»؛ ليكون فصلا جديدا في علاقة هيكل والسادات المتقلبة.
جاء الكتاب بعد أقل من عامين من اغتيال السادات في حادثة المنصة يوم 6 أكتوبر 1981، وبعد خروج هيكل من السجن.
أثار الكتاب عاصفة جدل لا تتوقف، وصدر هيكل كتابه بإعتباره أن عهد السادات كان بالأساس خطأ تاريخيا، وكان هذا الطرح يدل على الهجوم الشديد على عصر السادات، وهو عكس ما بدأ العصر بالتقارب بين هيكل والسادات.
فور صدور الكتاب، تعرض هيكل لهجوم حاد داخل وخارج مصر: كيف يكتب عن السادات بعد اغتياله؟ لماذا لم يهاجمه أثناء حكمه؟، فكان رده: «انتقدته فى حياته. وهذا الكتاب خلاصة دراستى وبحثى لحكمه».
بداية التفكير في خريف الغضب
ويقول هيكل عن بداية التفكير في كتابته لهذا الكتاب: «أعترف أننى بدأت أفكر في كتابة هذا الكتاب منذ اللحظة الأولى لاعتقالى في 3 سبتمبر 1981، حين التفت ورأيت حولى في السجن كل هؤلاء الذين يمثلون الرموز الحية لأهم التيارات السياسية والفكرية المؤثرة في مصر، كنت مقتنعا (بشكل شبه وجدانى) أننى أعيش في دراما سوف نصل إلى نهايتها في يوم من الأيام، وبشكل من الأشكال، وأنني كصحفي قد أكون مطالباً بأن أروي قصتها قبل غيري».
دلالة العنوان
عنوان الكتاب هو محاكاة لمصطلح شهير في السياسة البريطانية وهو «شتاء الغضب»، ويشير إلى اضرابات عمال مناجم الفحم في إنجلترا عام 1977، وسقوط حزب العمال وتولي حزب المحافظين ومارجريت تاتشر رئاسة الوزراء، واستعار هيكل العنوان ليعبر عن انهيار عصر وبداية عصر آخر.
مقدمة الكتاب: هيكل يشرح أسباب كتابته لخريف الغضب
أفتتح هيكل كتابه بمقدمة الطبعة المصرية، والتي ترجمها بنفسه بعدما صدر الكتاب بالإنجليزية، وجاء فيها: «توقعت أن يثير الكتاب جدلا لأن شبكة المصالح التي يمسها الموضوع ويقترب منها تناوله شبكة واسعة لها خطوطها بالطول وبالعرض في كافة مجالات الحياة المصرية. توقعت أن يثير الكتاب جدلا لأن الموضوع على علاقة بقوى عربية ودولية لها أهدافها المستمرة فوق مصائر الأفراد، ولقد تحقق لهذه القوى بعض هدفها عندما جرى الانفتاح في مصر بالطريقة التي جرى بها ابتداء من سنة 1974 وما تلاه. انتقل بعد ذلك إلى ما لم أتوقعه. لم أتوقع حجم الانفعال الذي قوبل به الكتاب.»
المنع غير الرسمي للكتاب
عندما طرحت النسخة العربية، تعرضت لمنع غير رسمي في مصر، وتحدث هيكل عن ذلك المنع للكتاب قائلا: «لم أتوقع أن يمنع الكتاب في مصر قبل أن تصل نسخة واحدة منه إلى مصر، ولم أتوقع أسلوب التعامل مع الكتاب في مصر على النحو الذي تم به فقد صودر الكتاب ولم يصادر في نفس اللحظة.
أقصد أنه صودر عمليا ولم يصادر رسميا - أي أن المصادرة تمت شفويا ودون قرار مكتوب. وحين تفضل بعض المحامين فرفعوا بالحق العام قضية أمام مجلس الدولة وجد مستشار المجلس المكلف بالنظر فيها أنه أمام موقف غريب: كتاب محبوس وقرار بالحبس لا أثر له على الورق.
ويؤكد الجورنالجي على أن المنع غير الرسمي للكتاب قد أثار الفضول حوله بشكل ما: «لقد تأكد مرة أخرى أن أي كتاب هو ملك قرائه فهم وحدهم يستطيعون حبسه بالإعراض عنه ومصادرته بإدانتهم له، أما الحظر بالمصلحة أو بالقوة أو بالسلطة فقصارى جهده أن يلفت الأنظار ويجذب الانتباه وبالتالي يضاعف من طاقة الفعل التي تحتويها الكلمة، وهذا ما حدث فعلا مع هذا الكتاب الذي قارب توزيعه أربعة ملايين نسخة في أكثر من ثلاثين لغة وتكررت طبعاته بهذه اللغات حتى جاء الدور الآن على طبعة منه تصدر في مصر.»
محاور الكتاب الرئيسية
قسم هيكل كتابه إلى ستة أجزاء، يرصد خلالها رحلة صعود السادات، وسياساته الداخلية والخارجية، وصولا إلى لحظة اغتياله وما بعدها:
الجزء الأول: صناعة نجم
عصر النجوم اللامعة
الجذور
الهروب إلى الوهم
في ظل عبد الناصر
على القمة في مصر
الجزء الثاني: النهب الثاني لمصر
العالم.. مسرحه
إعادة ترتيب المنطقة
صورة طبق الأصل
الأغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقرًا
شرخ في شرعية النظام
الجزء الثالث: الإسلام السياسي
القبضة الحديدية
النزول إلى العمل السري
العودة إلى الأصل
إخراج الجن من القمقم
هدنة مع الجن
الجزء الرابع: الكنيسة القبطية
المسيح والصليب
رياح التغيير
جيل جديد
كنيسة تنطلق
الراهب المقاتل
الجزء الخامس: العواصف تتجمع
أوهام القوة
النهب المنظم
لا ضوابط ولا موازين
التدهور والفوضى
الغضب في كل مكان
الجزء السادس: الصواعق
3 سبتمبر 1981
6 أكتوبر
بعد الاستعراض
من ولماذا؟
إلى أين؟
خريف الغضب ليس سيرة ذاتية بل عن أسباب الاغتيال
يتحدث هيكل في «خريف الغضب» ليس عن حياة السادات ودوره السياسي؛ فهو ليس سيرة ذاتية، بل إنه محاولة لشرح الأسباب التي أدت إلى اغتيال السادات، ويقول هيكل عن هذا في الكتاب:
«إن موضوع "خريف الغضب" كان ـ كما هو ظاهر من كل صفحة فيه ـ محاولة لشرح الأسباب التي أدت إلى اغتيال الرئيس "السادات" وبالتالى فهو ليس سيرة لحياته ولا لدوره السياسى، وكان "خريف الغضب" يتعرض لحالة رئيس غاضب (بلغ به الغضب إلى حد اعتقال رموز كل الاتجاهات السياسية والفكرية في مصر) - وحالة مجتمع غاضب (وصلت به الظروف الاقتصادية الاجتماعية مضافة إلى فساد استشرى إلى حد جعله يدير ظهره لكل شيء) - وحالة مسجد غاضب (أصبح في نهاية المطاف ملاذا لكتل فقدت أملها في الدنيا ولم تجد غير الله تهاجر اليه) - وحالة كنيسة غاضبة (بذلت قصارى جهدها لتفادي الفتنة فإذا رئيسها الأعلى رهن الاعتقال وراء أسوار دير في الصحراء).»
جدل عقدة اللون
تناول الكتاب العديد من المواضيع التي رأها هيكل قد أثرت على الرئيس السادات، ومنها "عقدة اللون" كما وصفها هيكل نفسه، والتي تعرض بسببها لهجوم كبير، وقد رد على هذا الهجوم في الطبعة العربية من الكتاب قائلا:
«أحزننى أن حاول البعض تأويل بعض ما قلته بعيدا عن قصده، ومن ذلك مثلا دعواهم أننى حين تحدثت عن "عقدة" اللون لدى الرئيس "السادات" كنت أصدر عن تحيز عنصري، ولقد أدهشني ذلك بقدر ما أحزنني لسبب بديهي وهو أننى لا أعرف لنفسى شقرة في اللون ولا زرقة في العيون فضلا عن أننى لا أعتقد أن ألوان الناس تحكم على جوهرهم الإنساني.
لقد تحدثت عن عقدة لديه لم يكن لها سبب حقيقى أو داع لكنها استحكمت فيه لأسباب تتعلق برؤيته الذاتية، والغريب أن بعضا من أقرب الناس اليه أشاروا إلى نفس العقدة كواقع مؤثر في مشاعره وتصرفاته ولم يتهمهم أحد بالتحيز زوجته السيدة "جيهان السادات" أشارت إلى هذه النقطة، وصديقه الرئيس الأمريكي السابق "جيمي كارتر" أشار اليها.
بل وروى السفير الأمريكي الاسبق في مصر "هيرمان ايلتس"كانت روايته في معرض تعليق له على "خريف الغضب" سال مداده على ثلاث صفحات كاملة من جريدة الواشنطن بوست أنه كان يتغدى مع الرئيس "السادات" وقرينته ولاحظ أن الرئيس "السادات" غير مرتاح إلى بعض تفاصيل زيارته وحاول أن يستوضحه فيما يشغل باله وتطوعت السيدة "جيهان السادات" فقالت له: "بصراحة إن "أنور" يخشى أن يواجه بعض المشاكل في أمريكا بسبب لونه."إذن فلم أكن وحدى الذي رصد هذه "العقدة" التي أوردها الرئيس لنفسه دون مبرر، وإنما رصدها آخرون أقرب اليه منى".»
مراسلات الحكيم وهيكل
بعد صدور الكتاب كتب الكاتب الكبير توفيق الحكيم رسالة إلى محمد حسنين هيكل وقدمها لتنشر في الأهرام، ولكن الأهرام رفض نشرها، فأرسلها الحكيم للأهالي لتنشر على صفحاتها.
ومن ما جاء في خطاب الحكيم الآتي: أنا معتقد أنك متأكد من عدم موافقتي على كتابتك السياسة؛ لأنك تتذكر ما كان يقوم بيننا من خلاف عندما كنا نجتمع في جلسات مجلس الإدارة بالأهرام، حيث كنت أوجه إليك الهجوم العنيف، ثم تنتهى الجلسة فإذا بذراعي في ذراعك ونذهب نتناول الطعام معاً ونحن نبتسم ونضحك.
ذلك أن علاقتنا تقوم على أمرين: الثوابت والمتغيرات أما الثوابت فهى المحبة والمودة وأما المتغيرات فهى الآراء من سياسية وغيرها، لا نخلط أحدهما بالآخر.
وإني أكتب إليك اليوم كى اهدئ من أعصابك بدافع هذه المودة والمحبة. وأنا بالذات لسبب واحد هو: إن حالتى تشبه حالتك. فأنت كتبت كتاباً هو "خريف الغضب" اعتبر هجوما ضد السادات بعد موته.
وأنا كتبت كتابا هو "عودة الوعي" اعتبر هجوما على عبد الناصر بعد موته، وقد يفسر الغضب عندك بأنه وضعك في السجن. أما أنا فلم يضعني عبد الناصر في سجن ! فلم يبق أمام العالم العربى إلا التفسير الواحد: "عدم الوفاء".»
ورد هيكل على خطاب توفيق الحكيم المنشور، ومن ما رد الآتي: «جاءتنى كلماتك التي بعثت بها إلى عن طريق "الأهالى" ذكرتنى بأيامنا الخوالى. أيام كان الحوار بيننا دائر لا ينقطع. هل تصدق أننى لا أقرأ كثيرا ما ينشر هذه الأيام، أعرف أهدافه، وأعرف أصحابه وألقى نظره سريعة على الصفحات الصاخبة، واستذكر مرة أخرى قوله "جورج برنارد شو": إنهم يقولون، ماذا يقولون؟ دعهم يقولون. وأثق أنك تصدق لأنى واثق أنك تعرفنى، وانتقل على ملاحظاتى على كلمتك:
دعنى أضع خطا فاصلا بين"عودة الوعى" الذي كتبته أنت عن جمال عبد الناصر، وبين كتابى "خريف الغضب" الذي لم يكن عن أنور السادات، لأنى أعتقد أن قصته مازالت قريبة وليس من السهل تناولها بتجرد. دعنى أشرح لك فكرة كتابى حتى يتضح لك اختلافه عن كتابك. لقد بدأت برئيس غاضب، يتذكر كيف كان- رحمه الله - ضيق الصدر، ومنفعلا، آلاف في المعتقل بقرار، مئات يفصلون من الجامعات والصحف، بيوت لله - مساجد وكنائس- تنقض عليها الصواعق، قرارات وخطابات ومؤتمرات كلها ساخنة إلى درجة الغليان، هجوم متصل على من لا يملكون حق الرد والدفاع.
كان الرئيس غاضبا، ولكى أشرح أسباب غضبه فقد حاولت أن أقترب من مفاتيح شخصيته. الجزء السادس والأخير من الكتاب فقد كان عاصفة البرق الخاطف في تصادم العواصف المشحونة على المنصة، ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ وماذا؟ ومن؟ ومتى؟ ثم إلى أين من هنا. إذن فإن الخريف الغاضب كان شيئا آخر غير ما بدا لك، وهو إذن يختلف عن كتابك".
ونشرت تلك الخطابات بعد ذلك في الطبعات اللاحقة للكتاب؛ لتكون شاهدة على التشابه الذي رأه توفيق الحكيم بين كتابه «عودة الوعي»، والذي هاجم فيه عبد الناصر ونظامه، وعلى الفارق والاختلاف الذي رأه حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب»، والذي هاجم فيها السادات ونظامه.
«خريف الغضب» توثيق بطعم الجدل
يبقى كتاب «خريف الغضب» مثيرا للجدل كلما تم استعادته إلى الأذهان، فهو شهادة على نهاية عصر ملتهب، وبداية آخر يمكن وصفه بالبرودة، كما أنه شهادة حول أسباب أفول شمس شخصية فريدة مثل شخصية أنور السادات، وهو أيضا توثيق بشكل ما لتحول علاقة هيكل بالسلطة من قريب منها، إلى أحد أشد مهاجميها؛ حتى لو بعد رحيلها.