كيف شكلت الثورة الإيرانية ملامح الشرق الأوسط الراهن؟
- السفارة الأمريكية كانت تعتبر إيران الشاه «الشرطى الحارس»
كيف حاولت أمريكا استعادة نفوذها واحتواء تداعيات الثورة الإيرانية؟
- هيكل: الخمينى «رصاصة من القرن السابع».. ومحاولة فهم الثورات أهم من محاولة الحكم عليها
كيف ربط هيكل بين الهزائم والتحولات الفكرية وصعود الإسلام السياسى؟
كيف زرعت بذور المواجهة الدائمة مع واشنطن وتل أبيب؟
يسأل هيكل كيف صعد الخمينى ليطيح بعرش الشاه وكيف تحولت الثورة من شعار إلى نظام؟
وسط المشهد العالمى المتغير باستمرار، تبرز بعض الأحداث التاريخية كعلامات فارقة تُلقى بظلالها على التطورات الآنية، وتُسهم فى فهم تعقيدات اللحظة الراهنة، وأبرز مثال على ذلك الثورة الإيرانية، كونها ظاهرة فريدة تحدت المفاهيم التقليدية للثورات، ولا تزال تُلهم النقاشات والتحليلات حول دور الدين فى السياسة، وقوة الحركات الشعبية، وتأثير التدخلات الخارجية.
ووسط التوتر الحالى بين إيران وإسرائيل ومعهما الولايات المتحدة يتجدد السؤال: من أين استمدت إيران قدرتها على تهديد إسرائيل عسكريًا؟ وهو السؤال الذى جاوب عنه محمد حسنين هيكل فى كتابه «مدافع آية الله.. قصة إيران والثورة»، الصادر عن «دار الشروق»، الجواب يبدأ من لحظة انقلاب الثورة الإسلامية فى عام 1979م، حين تبدلت طبيعة الدولة من شريك غربى إلى خصم إقليمى مزعج، وبدأت دورة نفوذ وصراع لم تهدأ منذ ذلك الحين.
فى الكتاب، الذى صدر ضمن الأعمال الكاملة، يقدم هيكل رواية مفصلة لبدايات هذا التحول: كيف صعد روح الله الخمينى من مدينة «قم» ليطيح بعرش الشاه، وكيف تحوّلت الثورة من شعار إلى نظام، وكيف زرعت بذور المواجهة الدائمة مع واشنطن وتل أبيب، حيث وضع يده على اللحظة التى قلبت موازين الشرق الأوسط.
اعتمد هيكل على أرشيفه الضخم، وحواراته النادرة مع كبار اللاعبين بل التقى الخمينى نفسه فى منفاه بباريس قبل أسابيع من عودته المنتصرة إلى طهران.
وقراءة «مدافع آية الله» اليوم لا تعنى فقط استعادة مشاهد الثورة، بل هى تذكير بأن النظام الإيرانى وخصومه ظلوا يدورون فى حلقة من الشكوك والصدامات منذ ذلك الوقت.
وهكذا يبقى سؤال هيكل حاضرًا من جديد: من يقود هذه المدافع اليوم.. ومن يتحمل ثمن دويها؟
== منظور هيكل التحليلى العميق للثورة الايرانية
يقدم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، منظوره الفريد والتحليلى العميق للثورة الإيرانية فى الكتاب هو استخلاص الرؤى الجوهرية وتحليلًا عميقًا عن قصة الثورة الإيرانية يتحدى خلالها الحكمة التقليدية ويدعو القراء إلى التفاعل مع حدث تاريخى تجاوز العديد من النظريات السياسية المعاصرة.
يستهل هيكل كتابه بالحديث عن «دراما الثورة الإيرانية» التى اقترب منها، وهى ما زالت فى فجرها، حيث كان الأفق معتمًا، ولم يتضح بعد مصيرها، فكان نجاحها واردًا وضربها واردًا أيضًا، وهو الاقتراب الذى بدأ عندما التقى «آية الله روح الله الموسوى الخمينى» لأول مرة بباريس فى ديسمبر 1978، ويعترف بأن ما رآه فى ذلك اللقاء قد استهواه وشده إليه، وشعر بأنه أمام تجربة فريدة فى التاريخ الحديث، ويشير إلى أنه كان يرد دائمًا على أسئلة حول رأيه فى الثورة بأن الوقت ما زال مبكرًا للحكم عليها، وأن الأهم هو محاولة الفهم أكثر من محاولة الحكم.
قبل هذه التجربة، كان هيكل يعتقد أن الثورة الشعبية بالمعنى الحرفى قد فات زمانها، وذلك بسبب الدبابات والمدافع التى قلبت موازين القوى بين الجماهير الثائرة والسلطة الحاكمة. وتصور، بناءً على التجربة الثورية المصرية وتجارب أخرى فى العالم العربى والعالم الثالث، أن أى ثورة جديدة لا تملك إلا خيارين: إما أن تجعل القوات المسلحة طليعة لزحفها، أو أن تقوم بتحييدها والالتفاف حولها للوصول إلى الأهداف. كان ظنه أن الثورة السوفييتية 1917، هى آخر ثورة استطاعت فيها الجماهير غير المسلحة أن تواجه جيش السلطة وتنتصر عليه، وحتى ذلك الجيش كان مهزومًا وضائعًا.
لكن الثورة الإيرانية، كما يصفها هيكل، كانت شيئًا مختلفًا تمامًا عما شوهد وعرف على مدى 60 عامًا، من 1917 إلى 1977، كانت "ثورة شعبية، ثورة جماهير عزلاء، تواجه جيشًا فى عنفوان قوته، حيث جرى بناؤه وتسليحه بواسطة نظام بالغ القسوة والشدة، كان يحمل مسؤولية حفظ الأمن فى منطقة هى من أكثر مناطق العالم قلقًا وتوترا، كما كان جيشًا ترعاه وتسنده واحدة من أعتى القوى الدولية فى العالم فى إشارة للولايات المتحدة، التى اعتبرت إيران شرطيها الحارس.
ويضيف هيكل أن الثورة الإيرانية تميزت بطابع مختلف عن المألوف فى العصر الحديث، فقد كانت دينية وإسلامية على وجه التحديد، وفوق ذلك، قادها رجل جاوز الثمانين، لا تربطه بالشباب أى صلة، ويبدو لا علاقة له بزماننا ولا بالأفكار المؤثرة والفاعلة فيه، وقد وصفه هيكل فى مقال لصحيفة صنداى تايمز، بـ«أنه رصاصة انطلقت من القرن السابع واستقرت فى قلب القرن العشرين»، بدا له الخمينى وكأنه شخصية عادت بمعجزة من الفتنة الكبرى فى الإسلام، لتقود معسكر على بعد ثلاثة عشر قرنًا، فى عصر يتسم بالصراع بين الشيوعية والرأسمالية، والسباق على الأسلحة النووية، والمنافسة للسيطرة على الفضاء، وفض أسرار الجينات، والتحكم فى الإلكترونيات.
== دراما الثورة الإيرانية..
ويروى هيكل أنه وجد نفسه «مدهوشًا» بـ«دراما» الثورة الإيرانية، موضحًا أن الدهشة ليست مجرد انبهار أو فضول، بل هى شعور يدفع الإنسان للبحث والتقصى لسد الفجوة بين ما كان يتوقع وما وقع فعلًا، ويؤكد أن هذه المحاولة هى موضوع الكتاب، الذى حافظ على أهميته وقيمته التحليلية لأكثر من عقدين تمت خلالهما طرحه فى طبعات متتالية، وهو ما يؤكد رؤى الأستاذ هيكل وعمق تحليله وأن «مدافع آية الله» تجاوز كونه مجرد تعليق صحفى عابر عن قصة الثورة الإيرانية، ليصبح نصًا تاريخيًا وتحليليًا مهمًا.
ويرى هيكل الثورات على أنها أشبه بـ«عملية انفجار هائلة» تحدث عندما يكون شعبًا من الشعوب أو أمة من الأمم قد تحملوا بأكثر مما تحتمله طاقتهم؛ اقتصاديًا وسياسيًا وفكريًا، وخلال هذه العملية الانفجارية، لا يحطمون قيودهم وسلاسلهم فقط لكن كل الحدود والسدود، ثم يحاولون وضع أساس مختلف لمجتمع جديد سيد وحر، وذلك بالرغم من كل ما قيل ويقال عن «قوانين الثورة»، فإن أسئلة أساسية، مثل من يضع الأساس الجديد، ومتى، وكيف تظل أسئلة عويصة لم تجد بغير جواب على طول التاريخ.
ويؤكد هيكل «إنسانية» الثورات، وأنه مهما قيل عن قوانين الثورة فإن الموضوع الأساسى لها كما هو فى التاريخ كله هو الإنسان، وأن الثورات ليست مجرد تنفيذ لخطة أو أيديولوجية محددة مسبقًا، بل هى عمليات سائلة وناشئة تتشكل بفعل عوامل بشرية معقدة، وظروف غير متوقعة،
والتعقيدات المتأصلة فى التحول المجتمعى. ويستشهد هيكل بالاتحاد السوفييتى والصين الشعبية كـ«أضخم التجارب الثورية فى القرن العشرين»، مؤكدًا ثقل إخفاقاتهما فى تحقيق المُثل الثورية بالكامل، ما يوحى بأن حتى أكبر التجارب فى الهندسة الاجتماعية تواجه تحديات عميقة.
وتحت عنوان «فى السفارة الأمريكية»، يناقش الأستاذ هيكل كيف أصبحت السفارة الأمريكية فى طهران العصب الرئيسى للتحكم فى المنطقة، وإلى أى مدى كانت هذه السفارة رمزًا للصراع بين القوى العظمى. ويتطرق إلى تاريخ التدخلات الأجنبية فى إيران، بدءًا من الصراعات حول النفط، حيث كانت القوى الدولية العظمة تتنافس للسيطرة على موارد إيران النفطية، وصولًا إلى كيفية بناء الجيش الإيرانى وتجهيزه من قبل النظام السابق لخدمة مصالح القوى الأجنبية، خاصة الولايات المتحدة، كما يشير إلى أن السفارة الأمريكية كانت تُعتبر إيران «الشرطى الحارس» لواشنطن فى المنطقة، وكذلك الدور الذى لعبته المخابرات الأمريكية لاسترجاع الشاه لعرشه عام 1953م، ويتحدث عن التوقعات الخاطئة للإيرانيين والأمريكيين حول مصير إيران، وتآكل النفوذ الأمريكى، لدرجة أن السفارة لم تكن لديها معلومات عن الهجوم الذى كان يدبر ضدها لاحتلال السفارة.
== أمريكا واستعادة نفوذها فى المنطقة
يصف هيكل خلال الفصل الذى حمل عنوان «هجوم النسر»، أول زيارة له لطهران، ويتعمق فى تحليل ردود الأفعال الأمريكية على تدهور الأوضاع فى إيران واندلاع الثورة، وكيف حاولت الولايات المتحدة، استعادة نفوذها أو احتواء تداعيات الثورة التى غيرت موازين القوى فى الشرق الأوسط. ويسلط الضوء على التحديات التى واجهتها الولايات المتحدة فى التعامل مع الثورة الإيرانية، والتى كانت تختلف جذريًا عن الحركات السياسية التقليدية التى اعتادت واشنطن التعامل معها، ما دفع النسر إلى البحث عن استراتيجيات جديدة.
ويركز الفصل الخامس، «طهران - مدينة مفتوحة»، على الأحداث التى سبقت سقوط الشاه وتداعياته، وكيف أصبحت العاصمة الإيرانية مسرحًا مفتوحًا للأحداث الحاسمة. يبدأ الفصل بوصف الوضع فى 22 أغسطس 1953، اليوم الذى شهد نهاية انقلاب مضاد لمحمد مصدق وعودة الشاه، ما يعكس الانقسام العميق فى المجتمع. ويوضح كيف أن محمد مصدق سلم نفسه، عندما سمع من الإذاعة خبر القبض عليه، ما أضعف معنويات المقاومة، موضحًا أن السفارة الأمريكية كانت مركز قيادة المخابرات الأمريكية التى أعدت خطط الانقلاب المضاد.
ويسلط الفصل الضوء على حالة الفوضى والاضطراب التى عمت طهران، حيث كانت المدينة عرضة لتدخلات القوى المختلفة، مشيرًا إلى أن الصحافة الإيرانية أصبحت تعكس بشكل كبير مشاعر الشباب الوطنى، وكيف تحولت إلى منابر سياسية للدعاية ضد الشاه. وأن طهران كانت مسرحًا للتحولات الكبرى التى مهدت لاحقًا لثورة شاملة.
ولا يغفل هيكل خلال كتابه أن يسلط الضوء على الصدمة التى تلقاها العرب فى حرب يونيو 1967م، وكيف أثرت هذه الهزيمة بعمق فى أعماقهم، ما دفعهم إلى إعادة تقييم شاملة لوضعهم، ويوضح أن العرب لم يتوقعوا الخسارة، خاصة أمام إسرائيل، وأن هذه الصدمة لم تكن مجرد هزيمة عسكرية بل كانت صدمة نفسية أيضًا، وهذا أدى إلى تراجع الثقة فى الأيديولوجيات التقليدية، مثل القومية العربية وحركات التحرر الوطنى، وصعود «مجموعة الأفكار القديمة التى كان العرب يعتقدون أنهم سيحملون لواءها ويحررون بقية العالم»، موضحًا أن هذه الأفكار، التى يرمز إليها بـ«انبعاث الإسلام»، أصبحت هى الحل الذى يتجه إليه الناس، ليربط ببراعة بين الهزيمة العسكرية الإقليمية عام 1967م وصعود الإسلام السياسى، وأن الفشل المتكرر للأيديولوجيات العلمانية والقومية فى تحقيق تطلعات الشعوب خلق فراغًا أيديولوجيًا، ملأه الخطاب الدينى الذى قدم نفسه كبديل أصيل وفعال، وأن هذا التحول ليس مجرد تغيير فى القيادة، بل هو تحول عميق فى الوعى الجمعى، حيث أصبح الدين هو المحرك الأساسى للتعبئة الشعبية، ما يفسر الطبيعة الفريدة للثورة الإيرانية.
خلال ما يقارب الـ300 صفحة يرسم هيكل فى كتاب «مدافع آية الله»، الثورة الإيرانية وأنها لم تكن مجرد حدث محلى بل كانت نتيجة لتفاعل معقد بين الحكم الاستبدادى، وصعود القوى الدينية كبديل للأيديولوجيات العلمانية، وتدخلات القوى الأجنبية التى ما تؤدى دائمًا إلى سخط شعبى، وديناميكيات إقليمية ودولية أوسع. كما تُبرز الصفحات الدور المحورى لطهران كمسرح للأحداث، ودور النفط كعامل اقتصادى وسياسى رئيسى. ويشدد هيكل على أن الثورة الإيرانية كانت ظاهرة فريدة تحدت المفاهيم التقليدية للثورات، وأن فهمها يتطلب تجاوز التحليلات السطحية والنظر فى الأبعاد الإنسانية والتاريخية العميقة.