مقومات نجاح مدينة الأثاث - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقومات نجاح مدينة الأثاث

نشر فى : الإثنين 1 فبراير 2021 - 8:10 م | آخر تحديث : الإثنين 1 فبراير 2021 - 8:10 م

إذا كان المستهلك هو المستفيد الأكبر من غزو مفهوم العولمة لمختلف الأسواق والمنتجات، فإن المشروع الإنتاجى مازال يعانى من استيعاب تحديات العولمة وتداعياتها على سوق المدخلات والمواد الأولية التى يحتاجها مشروعه من جهة، وعلى تفضيلات وقرارات المستهلكين من جهة أخرى. فقد ظلت صناعة الأثاث محلية فى مقوماتها، تعتمد بشكل كبير على المزايا النسبية فى عدد من المناطق داخل كل دولة. فى الولايات المتحدة مثلا كانت هناك ولايات محددة تتمتع بوفرة عناصر الإنتاج من عمالة مدربة، ومواد خام رخيصة نسبيا، وقرب من أسواق التوزيع... فى مصر كانت دائما مدينة دمياط مركزا هاما لصناعة الأثاث الذى توارثت فنه الأجيال، وكذلك استفادت المدينة من موقعها الساحلى على موانئ الاستيراد والتصدير، ومن شبكة النقل النهرى الرخيص نسبيا، والذى يضمن تدفق منتجات الأثاث من مدينة دمياط إلى سائر مدن مصر الحيوية على ضفاف النيل.
لكن التراجع المستمر فى أهمية الحدود بين الدول، وتعدد اتفاقيات تحرير التجارة من القيود على المستويين الإقليمى والدولى، وتطور وسائل النقل، وطفرة تكنولوجيا المعلومات وإتاحتها للجميع بتكلفة منخفضة... كل ذلك سهّل من تحوّل سوق الأثاث (شأن أسواق معظم السلع والخدمات) إلى سوق عالمية متشابكة يمكن للمستهلك فى الساحل الغربى الأمريكى أن يطلب قطعة أثاث من منتج صغير أو متوسط الحجم فى وسط آسيا بضغطة واحدة على جهاز الكمبيوتر. كذلك فإن الوحدات الصناعية العاملة فى مجال صناعة الأثاث أصبحت تعتمد على مدخلات مستوردة من عدد كبير من مراكز التصدير، تتنافس جميعا على أسس الجودة والسعر. ولأن منتجات الأثاث تتأثر تكلفتها كثيرا بتكلفة النقل، فقد ساهم تطور خدمات النقل واللوجستيات فى زيادة حدة التنافسية على المصنّع المحلى، الذى يعلم أنه لا ينافس الورشة أو المصنع الكبير القابع على ناصية شارعه وحسب، بل ينافس عددا غير معلوم من المصنّعين والتجار حول العالم، وأصبح من المحتم عليه أن يبتكر عناصر للمزايا «التنافسية» عوضا عن تلك التى كان يستهدفها من قبل، والتى أشرنا إليها باعتبارها «مزايا نسبية» لا فضل له فى خلقها، بل هى هبة خالصة من الله.
***
وعلى الرغم من تغيّر قواعد اللعبة فى سوق الأثاث على النحو السابق الإشارة إليه، فمازالت التجمعات الصناعية المتخصصة تتمتع بمزايا متعددة، حدت بأكبر اقتصادين فى العالم إلى توطين تلك التجمعات فى عدد محدود من المدن والولايات. فى الصين هناك خمس مدن صناعية تحتضن صناعة الأثاث، أربع منها مخصص للتصدير وواحدة فى الجنوب الغربى تخصص إنتاجها لإشباع احتياجات السوق المحلية. فى الولايات المتحدة مازالت الولايات التى كانت تاريخيا مركزا لصناعة الأثاث، هدفا للمشروعات الصناعية الجديدة، ومركزا لسلاسل الإمداد المرتبطة، وعلى رأسها غرب كارولينا الشمالية، مسيسبى، كاليفورنيا وشرق تنيسى.
وقد اختارت مصر أن تطور صناعة الأثاث على ذات الأسس، وأن تواجه تحديات العولمة عن طريق خلق مراكز صناعية على هيئة مدن متخصصة، كتلك التى أنشئت فى دمياط، وتلك المزمع إنشاؤها فى بعض محافظات الدلتا الأخرى (بحجم أصغر). التجمّع الصناعى (وفقا لبورتر 1998) «يعد أصلا مجمّعا collective asset يخلق بيئة تشجّع الشركات على تجميع المعرفة والمهارات والمدخلات، مما يرفع من الإنتاجية ويزيد من معدل الابتكار».
فى مدن صناعة الأثاث تتحقق وفورات للتجمع يسميها الاقتصاديون agglomeration economies حيث يتمركز موردو الأجزاء والخامات والخدمات والمعدات والبنية الأساسية وحاضنات التجارة والتسويق ومعاهد التأهيل المتخصصة. المزايا التنافسية التى تنشأ داخل تلك التجمعات تعوّض التراجع فى أهمية المزايا النسبية التقليدية. فهناك تعهيد sourcing لكثير من احتياجات الإنتاج والتوزيع، وخفض فى تكاليف البحث عن الخدمات ونقل وشحن المدخلات والخامات. كذلك فإن الطفرة المعلوماتية التى كانت سببا فى غلق العديد من الصناعات المحلية أمام المنافسة العالمية الشرسة، يمكن أن تستغل بكفاءة لخفض تكاليف التسويق والتخزين على المنتج المحلى الكائن بتلك التجمعات. فالتسويق والتجارة الإلكترونية تصل المنتج بالمستهلك النهائى وباحتياجاته التفصيلية، بحيث يقل الاعتماد على الإنتاج الكثيف (بغرض خفض تكلفة الوحدة المنتجة) وما ينشأ عن ذلك من ضرورة تخزين المنتج النهائى لفترات طويلة يزيد فيها الضغط على سيولة الشركة المصنعة ورأسمالها العامل. فالتسوق عبر الانترنت يوفّر الكثير من تكاليف توظيف أطقم التسويق والمبيعات، وييسر على الشركة التخطيط لمنتجاتها بكفاءة أعلى، تغنى عن الحاجة إلى تراكم المخزون من الخامات والمنتجات. فبداخل التجمّع الصناعى أو «مدينة الأثاث» توجد مستلزمات الإنتاج، فلا حاجة لشراء وتخزين ما لا يدخل فى الصناعة مباشرة لتلبية طلبات الشراء (وهو ذات النموذج الذى اعتمدته بنجاح شركة Dell والذى يمكن القياس عليه رغم التباين فى طبيعة الصناعة).
***
التجمّع الصناعى يمنح للوحدات الصناعية القدرة على أن تعتمد عمليات إنتاجية مرنة، عوضا عن الإنتاج الكثيف، بحيث يعاد تخصيص الموارد باستمرار، بما يخدم الطلب فى السوق واحتياجات المستهلك النهائى. فى التجمّع الصناعى تتحقق للوحدات الصغيرة نسبيا مزايا لم تكن لتدركها إلا عبر عمليات الاندماج والاستحواذ، والتحوّل إلى شركات عملاقة. وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه كان ومازال سائدا خلال الخمس وعشرين عاما الماضية (أقصد اتجاه تعظيم حجم المنشأة الصناعية فوفقا لستاندرد آند بورز فإن أكبر 25 شركة صناعية تنتج نحو 46% من قيمة ما تم شحنه من أثاث عام 1998 صعودا من 40% فى عام 1990) إلا أن الإحصاءات تشير إلى تنامى المشروعات الصغيرة والمتوسطة فى مجال صناعة الأثاث بشكل ملفت.
تلك المنشآت الصغيرة تحصل داخل التجمّع الصناعى على مزايا التكامل الأفقى والرأسى مع الموردين والمصنعين الآخرين، وخدمات حاضنات التسويق المجمّع بتكلفة منخفضة. التحالفات الاستراتيجية أيضا عادة ما تكون غاية فى الأهمية فى تلك الصناعة، نظرا لوجود عقبات لاقتحام السوق، تتكوّن من خبرات متراكمة فى التصميم والمهارة والعلامات التجارية وارتباط المستهلك والقدرة على تطويع الإنتاج لاحتياجاته المتغيرة. من هنا كان من الضرورى أن تحرص الكيانات الصناعية بالتجمّع على التكامل من خلال اتفاقيات التصنيع والتسويق والتوزيع المشترك، واتفاقيات الشراء والتعهيد الموحّد. فحجم المنشأة الصناعية ليس بالضرورة عاملا مهما فى مواجهة تحديات العولمة، فوفقا مكلثويت وولدريدج (2000) فإن نصف الشركات العاملة دوليا توظف 250 عاملا أو أقل.
***
من قلب محنة العولمة التى جعلت العالم كله مركزا واحدا لتسوّق المستهلك عند أطراف أصابعه، ولم يعد بمقدور أى منتج مهما كان حجمه أن يسيطر على الأسواق إلا فى حالات نادرة. تكمن منحة يتعين على الصناع التماسها فى تطويع خدمات تكنولوجيا المعلومات الرخيصة لصالحهم، ولصناعة هامش من خصوصية المنتج المعد خصيصا لاحتياجات المستهلك الفرد، بما يبرر التمييز السعرى. تماما كما يتميز السجاد المنتج يدويا سعريا عن ذلك المصنّع بكميات كبيرة عبر ماكينات عملاقة. فى صناعة الأثاث يمكن تلبية احتياجات شديدة المحلية والخصوصية من خلال ورش صغيرة تستخدم مخرجات المصانع الكبيرة مدخلا لها، أو تصنع منتجها من المادة الخام مباشرة، ولكن عبر عمليات سابقة من التواصل المباشر مع المستهلك، للوقوف على تفضيلاته الشخصية باستخدام تكنولوجيا المعلومات، ووفقا لستاندرد آند بورز مجددا، فقد نمت مبيعات الأثاث عبر شبكة الإنترنت من نحو 518 مليون دولار عام 1999 إلى ما يقرب من 6.4 مليار دولار عام 2003. وتؤثر تكنولوجيا المعلومات على صناعة الأثاث عالميا بأكثر من وجه، منها ما يتعلق بسهولة الوصول إلى تفضيلات المستهلك، وتمكينه من التعبير المباشر عن رأيه فى المنتجات، الأمر الذى يساهم فى تطوير وتحسين جودة الإنتاج، وتحوّل المستهلك إلى أداة تسويقية غير مكلفة للشركة. التصميم الخاص الذى يطلبه المستهلك، واختلاف الألوان والتركيبات... لا يسهل تطويع الماكينات العملاقة لتوفيره، بعكس الورشة والمصنع الصغير.
هناك مقومات أخرى لصناعة المزايا التنافسية لمدن الأثاث الصناعية، منها بيئة استثمار جاذبة توفرها الحكومة المركزية ووحدات الحكم المحلى، من خلال تشريعات ميسرة، ونظم ضريبية مرنة، ونظام تعليم فنى متخصص فى مجال تصميم وصناعة الأثاث ووسائل نقل من وإلى المدن الصناعية، وبنية أساسية متطورة وذكية وخضراء.
ولأن مصر تحقق اليوم معدلات تفوق التوقعات للنمو الاقتصادى، على الرغم من تحديات جائحة كورونا وحروب التجارة العالمية، فإنه من المعلوم أن موجات الإنفاق التى تنشأ عن المعدلات المرتفعة للنمو الاقتصادى (خاصة ذلك المحفز بالاستهلاك) ينشأ عنها زيادة فى الطلب على منتجات الأثاث. فإذا أضفنا إلى ذلك ما تشهده البلاد من توسعات عمرانية، وطفرة فى إنشاء المدن الجديدة، فإن أشكالا مختلفة من التأثيث سوف يكون الطلب عليها استثنائيا خلال السنوات القادمة. ومن عوامل نجاح المدن الصناعية توافر طلب مستقر فى الأجل الطويل.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات