عندما اندلعت أزمة الائتمان العقارى فى الولايات المتحدة فى الفترة 2007ــ2008، كانت محاولات احتواء تلك الأزمة أشد ضررا بالأسواق من الأثر المباشر لانفجار الفقاعة العقارية. فقد أفرزت تلك المحاولات العديد من التشوّهات السوقية، التى نتجت فى الغالب عن إفراط البنوك المركزية فى ممارسة التيسير الكمى.
قاد الفيدرالى الأمريكى هذا الاتجاه من خلال ضخ تريليونات الدولارات فى الاقتصاد المحلى. لكن بدلًا من توجيه البنوك التجارية هذه الأموال إلى الأسر والشركات، لمساعدة الاقتصاد الوطنى على التعافى من آثار أزمة الائتمان العقارى، بدأت الأموال تتدفق عبر الحدود من خلال عمليات المراجحة، والمضاربات على أسعار الفائدة والعملات، ونزوح رءوس الأموال.
ونتيجة لذلك، أصبحت البنوك المركزية متورّطة بعمق فى أسواق رأس المال. الأمر الذى عرّضها لتقلبات الأسعار وأزمات نقص السيولة؛ فلم يعد استهداف التضخم هو شاغلها الشاغل، حيث أثارت ميزانياتها المتضخمة العديد من المخاوف الأكثر إلحاحا.
قبل الأزمة المالية العقارية، كان الفيدرالى الأمريكى يحتفظ فى ميزانيته بما يتراوح بين 700 و800 مليار دولار من سندات وأذون الخزانة. بين عامى 2009 و2014، نمت تلك الميزانية بأكثر من 4 تريليونات دولار. وفى أعقاب صدمة كوفيدــ19، تمت إضافة 2 تريليون دولار أخرى إلى هذا الرصيد. وتترك تلك الالتزامات الكبيرة، المستحقة على بنك الاحتياطى، تأثيرًا ضخمًا على إصدارات أدوات الدين فى مختلف دول العالم.
وقد قاد بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى أربع موجات من التيسير الكمى منذ تلك الأزمة. كانت بداية الموجة الأولى فى نوفمبر 2008، والموجة الثانية فى نوفمبر 2010، والموجة الثالثة فى سبتمبر 2012. أما الموجة الرابعة فقد بدأت فى مارس 2020 كمحاولة لاحتواء التأثير السلبى لجائحة كوفيدــ19. وفى حين يُعتقد أن بنك اليابان كان رائدًا فى ممارسة عمليات التيسير الكمى منذ عام 2001، فإن الفيدرالى الأمريكى يتمتع بقدرة أكبر على التأثير فى أسواق المال العالمية، نظرًا لوتيرة وحجم تدخلاته.
• • •
كانت الطريقة التى تعاملت بها الولايات المتحدة مع وضع ديونها الرديئة، سببًا فى زيادة تعقّد الأزمات ومضاعفة تلك الديون فى نهاية المطاف. فقد اعترضت التيار السائد منذ عام 1945، والذى كان يتسم بحرية التجارة، ورشادة تدفق رءوس الأموال، ونضج أسواق الصرف الأجنبى. ظل بنك الاحتياطى الفيدرالى ووزارة الخزانة الأمريكيين يعملان على تضخم الاقتصاد، عن طريق زيادة السيولة والائتمان المصرفى بشكل مصطنع لا يعكس قوى السوق. تم ذلك إلى حد كبير على حساب دول أخرى، حيث تم إغراق الاقتصاد العالمى بالائتمان المصرفى، فى حين استمر عجز ميزان المدفوعات الأمريكى ينمو بشكل مضطرد، وارتفع الدين العام إلى مستويات يصعب معها تصوّر أى أفق للسداد.
وإذ يشهد العالم اليوم فقاعة من الديون المتضخمة، تهدد بتكرار أزمة الديون التى عانت منها دول أمريكا اللاتينية فى ثمانينيات القرن الماضى، فلا يمكن إغفال دور التيسير الكمى فى خلق تلك الفقاعة. فهى نتيجة مباشرة لانتشار أسعار الفائدة قرب الصفرية، والتى نشأت عن الاستخدام المفرط للتيسير النقدى. ويتجاوز الدين العالمى المستحق حاليًا ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالى العالمى. أغرت تدفقات الأموال الرخيصة نسبيًا بالدول منخفضة الدخل، كى تتوسّع فى الاستدانة على نحو بات يهدد استقرار النظام المالى العالمى بشكل غير مسبوق.
وعلى نحو مفاجئ تغير كل شىء! أصبح لزامًا على الدول التى تعانى من مستويات مرتفعة من الديون الخارجية المقوّمة بالعملات الصعبة، أن تسدد ديونها فى ظل ظروف مالية مختلفة تمامًا. فقد ساهمت صدمات جانب العرض فى مرحلة ما بعد فيروس كورونا، إلى جانب الحرب الروسية الأوكرانية، وتدهور المناخ واتجاهات تراجع العولمة.. فى إحداث صدمات تضخمية عظمى، ترتب عليها اتباع البنوك المركزية لسياسات صارمة للتشديد النقدى (الذى هو عكس التيسير النقدى).
على خلفية تلك الضغوط التضخمية، واشتعال الحروب التجارية وصراعات النفوذ التى اضطربت معها سلاسل التوريد العالمية، بدا للفيدرالى الأمريكى أن معدلات التضخم غير المسبوقة منذ نحو أربعة عقود، تهدد بإزاحة الدولار عن عرشه. فعمد الفيدرالى إلى ملاحقة معدل التضخم السنوى المستهدف (غير الواقعى)، والبالغ 2% برفع مستمر حاد فى أسعار الفائدة منذ مطلع العام قبل الماضى، حتى ارتفعت من مستوياتها قرب الصفر إلى 5,5%.
مرة أخرى تقود السياسة النقدية الأمريكية الاقتصاد العالمى على مسار عنيف لاحتواء الأزمات، هذه المرة بالإفراط فى اتباع أدوات التشديد النقدى. هذا التشديد قد يضع حدًا للأموال الرخيصة لسنوات مقبلة، خاصة مع ظهور مؤشرات ببطء وتيرة التيسير التى يعتزم الفيدرالى اتباعها اعتبارًا من منتصف العام الجارى. التيسير هذه المرة قد يتمثّل فى الخفض التدريجى فى أسعار الفائدة، دونما عودة إلى تشويه الأسواق بمزيد من مشتريات الأصول من قبل الفيدرالى الأمريكى.
التكلفة المتزايدة للحصول على رأس المال، إذ تهدد الدول منخفضة الدخل بالتخلّف عن سداد التزاماتها، وتدفع تصنيفها الائتمانى إلى مستويات غير استثمارية، فإنها ترفع كذلك من مخاطر الركود وانتشار الفقر من خلال رفع تكاليف التنمية. وأثناء تنافسها على تدفقات مالية أقل، تعمد الدول النامية إلى رفع أسعار الفائدة كوسيلة تقليدية لاستقطاب الأموال الساخنة. ذلك السباق المحموم يؤدى إلى تفاقم الأزمة وتثبيط الاستثمار الجاد، ويجعل من الصعوبة البالغة على الأجيال القادمة سداد فاتورة الديون بالكامل.
من هنا تصبح عمليات إعادة هيكلة الديون وتخفيض قيمتها، ضرورية لنجاة تلك الدول. لكن عمليات إعادة الهيكلة تأتى بتكلفة، كونها تلحق الضرر بالتصنيف الائتمانى، وتزيد من المخاطر المرتبطة بمنتجات الدين وزيادة المخاطر تعنى ضرورة رفع الفائدة مجددا مما يخلق حلقة مفرغة من الدين والتعثّر لا يمكن كسرها إلا من خلال تنفيذ إصلاحات هيكلية فى سوق الديون العالمية. ولا تتوقف تلك الإصلاحات على فرض مزيد من الالتزامات على المدينين فقط، بل فرض قيود على الدائنين، تحول دون استمتاعهم بعوائد استثنائية على حساب شعوب فقيرة وأجيال لم تولد بعد!
• • •
إذ أقدم المركزى المصرى على رفع أسعار الفائدة بمقدار 600 نقطة أساس فى 6 مارس الماضى، بهدف ملاحقة التضخم الجامح، فقد ساعد ذلك الرفع إلى جانب تخفيض قيمة العملة، على استعادة بعض تدفقات رأس المال إلى إصدارات الخزانة، ما عوّض جزئيًا عن خسارة ما يقرب من 20 مليار دولار من التدفقات الخارجة، عشية الحرب الروسية الأوكرانية فى مارس 2022. لكن سرعان ما بدأت الأموال الساخنة تحصد مكاسب (فروق سعر الصرف) لدى اتجاه العملة المحلية نحو مزيد من التعافى أمام الدولار الأمريكى (مثلًا قام المستثمر فى أدوات الدين ببيع الدولار على 50 جم وأعاد شراءه بنحو 47 جم بعد التخلص السريع من أذون الخزانة التى اشتراها منذ أيام!).
كذلك اتخذ المركزى التركى خطوة مفاجئة فى الحادى والعشرين من الشهر نفسه، حيث رفع أسعار الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس (إلى 50%)، وقد ظهر التأثير المباشر لهذا الارتفاع فى سعر الفائدة فى الليرة التركية، التى ارتفعت إلى 32 ليرة لكل دولار. وهى قرارات تزيد من حدة التنافس على الأموال الساخنة بين الدول التى تهددها أشباح الأزمات المالية بالفعل.
وتضع تلك المكاسب الضخمة لأصحاب المال الساخن تحديات جديدة أمام الاستثمارات المباشرة فى المنطقة، حيث لا يمكن لتلك الاستثمارات أن تأتى بعائد قريب من عائدات أدوات الدين، فترتفع تكلفة الفرصة البديلة نتيجة لذلك. ويؤدى ارتفاع تكلفة رأس المال إلى إنتاج أقل، وإمدادات أقل من السلع الأساسية، وصدمات تضخمية أكبر، وارتفاع معدلات البطالة والفقر.
تتجه أنظار العالم نحو اجتماع الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى فى يونيو المقبل. وستكون الجولة المتوقعة من التيسير النقدى بمثابة إشارة للبنوك المركزية وأسواق رأس المال، إن كان ثمة سبيل لتجنّب الركود الاقتصادى العالمى فى المدى القصير. وإذا قرر بنك الاحتياطى الفيدرالى إبطاء وتيرة التيسير، فإن الضعف المتوقع للدولار لن يخفف الضغوط المفروضة على الدول التى تسعى إلى استقطاب تدفقات رأس المال، وتلك التى تعانى من الدين الدولارى الضخم.
وقد أرغم هذا النوع من الضغوط بنك اليابان على إنهاء ثمانى سنوات من تبنى سياسة أسعار فائدة سلبية، ورفع أسعار الفائدة إلى نطاق يتراوح بين 0 و0.1%. وكان التحرك الأخير الذى اتخذه بنك اليابان، بمثابة أول رفع لأسعار الفائدة منذ عام 2007. وإذ لا يشير هذا الرفع إلى سياسة تشديد نقدى معتبرة، فإنه يبشر بموجة عاتية من ارتفاع تكلفة الأموال، لم يتمكن البنك المركزى الأكثر عنادًا فى العالم من مقاومتها!
ويتعين على صندوق النقد والبنك الدوليين اغتنام الفرص التى تتيحها التقلبات العالمية الكبرى؛ مثل تراجع العولمة، وانتقال الطاقة، وتحوّل التكنولوجيا، وارتفاع تكلفة رأس المال.. بغية إعادة الهيكلة المؤسسية، وحوكمة القروض، وإتاحة تمويل إقليمى متوازن، فضلًا عن إيلاء المزيد من العناية لمشاورات المادة الرابعة، لتحقيق مزيد من الانضباط فى هيكل الدين العالمى ولو على سبيل القيادة بالمثَل لمختلف أنواع الديون الأخرى.