ليس لديه شك، بيته يتنفس ليلا. يستمع إلى صوت دقات قلب تصدر عن الجدران. حركة التنفس توحى بالاقتراب من الموت أكثر من الحياة. البيت لم يعد ذلك الذى كان، بل تقلص إلى غرفة واحدة تضم كل أفراد عائلته. تهدمت معظم أجزائه. صار بيتا من لحم يتكدسون فيه جميعا بعدما تنقلوا بين مخيمات غزة. تلاحقه رائحة اللحم المحترق وقد تحول إلى اللون الأسود المتفحم. صار أثاث البيت أشلاءً، هناك بقايا كتل أسمنتية، حطام باب، قطع سجاجيد ممزقة ومتناثرة،... وحرارة الجو تكاد تصهر كل شىء وتخلطه ببعضه.
الآن، وبعد أن هبط الصمت الثقيل على الحى، اكتشف الصغير أنه لم يكن وحيدا وأن ما حصل يعنى الكثيرين، يعنى الجميع، الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم. لم يعد من الممكن أن يقول له أحدهم: «جاءت الملائكة وحملت الميت إلى السماء»، كما فعل أهله فى السابق لتفسير اختفاء بعض الأقرباء، فقد رأى الشياطين بعينه يحولون مدينته إلى جحيم، وهو لم يكن يفهم بالضبط معنى الجحيم، لكنه شاهد أحباءه يتحولون إلى رماد، وعلى رأسهم والده وجده أو «سِيده» كما يناديه الأحفاد.
• • •
من حين إلى آخر يحمل الناس نعوشا ملفوفة ويسيرون فى الشارع، تتداخل أصوات لا يمكن فرزها لتكسر الصمت الذى يغلف المكان، ثم يمتلئ الجو بالرهبة أكثر من قبل. يبكى الأطفال بخوف وهو معهم. تبدو لهم استحالة العودة إلى بيوتهم سالمين، ولا يعلمون إن كانوا سيعودون أم سيتلقفهم الموت. بعضهم غاضب حزين، وبعضهم استسلم للقدر، وفريق ثالث كل ما يكدره فى هذه اللحظة أنه لا يستطيع أن يحمل رفاة ذويه وقد تبعثرت من جراء القصف الوحشى والتهمتها النيران. يُقبِّلون الجثث بعيونهم للوداع ويتركونها مكانها. يرتفع بكاء حاد موجع ويعلو فوق أصوات الجميع، لا يلبث أن يتحول إلى نحيب.
ساكن البيت الذى لا يتجاوز عمره العاشرة ينتظر الليل لكى ينصت لأصوات الغائبين، يراقب النجوم من فتحة فى السقف مقتنعا بأن وجه أبيه ونظراته الأخيرة ستظل مطبوعة فى السماء، لأنه توفى فى مثل هذه الساعات. يجز على أسنانه فيكاد صريرها أن يوقظ من ينام إلى جانبه. لاحظ أنه لم يعد يتعامل مع القطط بالوداعة نفسها، لكنه لم يكترث لعنفه واندفع مثل غيره من الأطفال والمراهقين إلى ملاحقة الشاحنات التى تحمل المعونات على أمل أن يحظى ببعض منها له ولأسرته التى أصبح عائلها بعد أن غيب الموت معظم رجالها.
الحرب كانت بالنسبة له أول اكتشاف حقيقى للمدينة، فهذه المرة الأولى التى يعرف فيها امتداد الحى واتساعه، كمكان وكبشر، وترافق ذلك مع لحظات الوداع واصطدم بالموت. صحيح أن الحياة لم تكن أبدا عادية بطيئة، لكنه كان دوما يشعر أن العالم يبدأ وينتهى هنا.. داخل كل حى أو عند تخومه.
• • •
رمق الصغير دميته بنظرات حانية وطلب منها أن تسابقه فى العدو حيث كانت باحة البيت، ثم غضب منها وسبها ورماها بحنق. وما إن استسلم للنوم حتى تحول المشهد أمامه إلى بحر هائج متلاطم الأمواج، وتحولت الدمية إلى امرأة فاحمة الشعر، لا تعبأ بمواء القط الأسود الذى كان يحوم حولها. عصفت الريح بضراوة ولمح حية تزحف على الرمال متجهة نحوه والتفت حول عنقه، بعد أن هاجمت القط وخنقته. تلقف البحر جثة القط التى غطاها الذباب فجأة، جرفتها المياه وغسلت عنها الدماء فورا، ثم غاص الجسد إلى أسفل.
أطلقت صفارات الإنذار صراخها الممطوط الحاد، فأطفأت المدينة أضواءها وحاول خنق شهقة ذعر. التصق بأمه، وألقت الطائرات قنابلها. هل هذا واقع أم كابوس وهو لا يزال فى سبات عميق؟ اختلط عليه الأمر، ففى هذه الأشهر الأخيرة صارت الحياة بغزة أسوأ من كل الكوابيس.