الشمس على وشك الغروب. استرق النظر إلى أحد مداخل بنايات وسط البلد التى يتم تنظيفها، ثم أعلو ببصرى نحو الشرفات الصغيرة المقوسة وأسوارها من الحديد المشغول، وقد أحاطت بها السقالات من كل جانب تمهيدًا لأعمال الصيانة والدهان. أتجول حتى أصل إلى الميدان الذى يقف فيه رابضًا تمثال طلعت حرب منذ حوالى سبعين عامًا، كأنه مراقب عام، يرى ما يحدث دون أن ينطق ببنت شفة. أتغاضى عن فكرة أن ملامح التمثال لا تشبه رائد الاقتصاد المصرى بشكل دقيق، بحسب ما ورد فى كتاب الصحفى البريطانى ديزموند ستيورات عن «القاهرة» التى عاش فيها، لكن هيئته والطربوش الذى يزين رأسه يجعلان له سطوة على قلب المدينة الخديوية، بين ميدانى التحرير والعتبة، وذلك منذ أن أمرت الحكومة المصرية بنحته وتنفيذه على يد الفنان فتحى محمود، فى أعقاب ثورة الضباط الأحرار. أراد جمال عبدالناصر أن يرد الاعتبار لهذا العملاق الذى فطن مبكرًا إلى ضرورة التمصير والتحرر من سيطرة الاقتصاد الأجنبى للتخلص من الاستعمار، فأمر عام 1954 بإطلاق اسمه على ميدان سليمان باشا سابقًا، ووضع تمثاله مكان هذا الأخير الذى تم نقله إلى المتحف الحربى، بما أنه يعتبر مؤسس الجيش المصرى فى عهد محمد على. وكان طلعت حرب قد مات قهرًا فى مطلع الأربعينيات بعد أن أجبرته السلطات المصرية والإنجليزية على الاستقالة من منصبه، وتوفى فى قرية صغيرة بالقرب من فارسكور بمحافظة دمياط، عن عمر يناهز 74 عامًا بعدما أصيب بمرض اليرقان، ليختتم حياة حافلة.
• • •
بعد حصوله على ليسانس الحقوق عام 1889، التحق طلعت حرب بالعمل كمترجم بالقسم القضائى لدائرة السنية، ثم أصبح رئيسًا لإدارة الحسابات فمديرا لمكتب المنازعات حتى أصبح مديرا لقلم القضايا. بعدها انتقل عام 1905 ليشغل منصب مدير شركة كوم أمبو لاستصلاح الأراضى قبل أن يتجه إلى الشركة العقارية المصرية التى جعل أسهمها مملوكة بالكامل للمصريين فى غضون سنوات. وهو ما سيحاول فعله فى كل خطوة يخطوها بعد أن لمس آثار الأزمة المالية لعام 1907 والمعروفة بـ«الذعر المصرفى»، خلال عمله ببنك بريطانى له فرع بمصر يسمى «بنك القاهرة». شهد كساد السوق وتحول بعدها إلى الكتابة فى الاقتصاد والتعمق فيه. وحين حاولت الشركة المالكة لقناة السويس تقديم مقترح، عام 1910، لمد حق الامتياز لمدة خمسين عامًا أخرى، ساهم فى حشد الرأى العام لمعارضة هذا المقترح وأصدر كتابه «مصر وقناة السويس». ودفع الضغط الشعبى الذى أحدثه الجمعية العمومية إلى تكليفه مع سمير صبرى باشا بكتابة تقرير عن الموضوع وضحا فيه الخسائر المتوقعة فى حالة تمديد الامتياز، وبناءً عليه رفض مجلس النواب هذا العرض.
بدأت تتبلور فى ذهنه فكرة إنشاء بنك وطنى لمواجهة الاحتكار المصرفى الأجنبى، بعد مشاركته فى ثورة 1919. أقنع 126 مصريا بالاكتتاب لإنشاء البنك ونجح فى توجيه المدخرات الوطنية للاستثمار فى المشروعات الصناعية والخدمية. بلغ رأس المال وقتها 80 ألف جنيه وتمثل فى 20 ألف سهم، بسعر 4 جنيهات للسهم، وأخيرا تحقق حلمه عام 1920 وتم الاحتفال بتأسيس البنك بدار الأوبرا. ومن بعدها توالت المشروعات الاقتصادية الكبرى بهدف التمصير الذى كان يُترجم فى كثير من الأحيان بواسطة الطراز المعمارى الشرقى للمقرات، وهى مازالت قائمة وتشهد على حقبة من أهم مراحل التاريخ المصرى.. بنايات لا تقدر بثمن كالمركز الرئيسى لبنك مصر بشارع محمد فريد أو المسرح القومى الذى حمل هذا الاسم بعد ثورة 23 يوليو، لكن تاريخه ارتبط نوعًا ما بطلعت الحرب لأنه اهتم بفرقة «أولاد عكاشة» المسرحية وشكل منها «شركة ترقية التمثيل العربى» التى قدمت عرضها الأول فى أبريل 1921 على خشبة تياترو حديقة الأزبكية الذى شُيد فى عهد الخديو إسماعيل وتحول إلى المسرح القومى عام 1958.
• • •
كل هذه الأماكن تقع على بعد خطوات من الميدان والتمثال وكأن روحه تسكن المنطقة بأسرها التى يمكن زيارتها سيرًا على الأقدام لنتذكر تاريخ هذا الرجل العظيم الذى ظل حلمه يكبر سنة تلو الأخرى، فبعد عامين من تأسيس بنك مصر قام يإنشاء أول مطبعة مصرية، ثم شركة للنقل البرى وأخرى للنقل النهرى وثالثة للملاحة البحرية، ثم شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، ثم مصنعا لحلج القطن فى بنى سويف.. دخل مجالات الصباغة والمناجم والمحاجر وتصنيع الزيوت والمستحضرات الطبية والمنتجات الغذائية والألبان والكيماويات والفنادق والطيران والسينما.. لكن تعرض لأزمة مالية كبيرة ورفض البنك الأهلى منحه قروض واشترطت عليه الحكومة وسلطات الاحتلال ترك منصبه للخروج من الأزمة. وحين وافته المنية، تحركت الجنازة من منزله بشارع رمسيس (الملكة نازلى وقتها) باتجاه صحراء المماليك أو مقابر صلاح سالم التى تتم إزالة الكثير من معالمها حاليًا.
التماثيل وأسماء الشوارع ومعالمها ليست بريئة، بل هى عوامل مضادة للنسيان، تنوه دائمًا عن اختيارات سياسية وانحيازات أيديولوجية. أشباح الماضى التى تعلق بالميادين وتماثيلها تجعلنا دائمًا نتساءل حول أسباب تواجدها فى هذا المكان بالذات وتدفعنا أحيانًا إلى مراجعة سيرة هؤلاء والحنين إلى زمانهم، خاصة حين نقرأ بعض التصريحات الصادمة حول بيع بنايات القاهرة الخديوية وتطوير وسط البلد بشكل لا يحترم هويتها أو طمس معالم القرافة أو نشعر بالهزيمة بسبب معطيات مختلفة. ننظر إلى تمثال طلعت حرب بكل ما يمثله من شموخ ونترحم عليه وعلى روح من قرر وضعه هنا ومن شكله بهذه الهيئة مثلما نحت أعمال أخرى نمر بها يوميا دون أن نذكر اسمه، فالفنان فتحى محمود هو من أبدع تمثال «عروس البحر» أمام السلسلة بالإسكندرية والنصب التذكارى أمام جامعة القاهرة تخليدًا لذكرى الطلاب الذين لقوا مصرعهم أثناء مظاهرات تعديل الدستور عام 1935.
أرفع عيناى مجددا إلى التمثال وأقول لنفسى: بدأت فكرة بنك مصر بحملة صحفية قادها طالب حقوق فى جريدة الأهرام عام 1919، ولاقت استجابة شعبية كبيرة استغلها طلعت حرب للشروع فى الاكتتاب العام، فلماذا لا نفعل الشىء نفسه لشراء ما لا نريد فقده والاحتفاظ بذكرياتنا؟ إذ لجأ إليه رائد الاقتصاد أكثر من مرة خلال مسيرته من أجل التمصير.