تذكرة للحرية - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 4 أكتوبر 2025 11:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

تذكرة للحرية

نشر فى : السبت 4 أكتوبر 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 4 أكتوبر 2025 - 9:29 م

وقفت أتأمل الحضور من أعلى شرفة منزل المخرج الراحل يوسف شاهين بدهشور الذى ورثته عنه ابنة أخته، المنتجة والمخرجة ماريان خورى. قررت هذه الأخيرة منذ عام 2012 أن تقيم فيه ورشا سينمائية تحت اسم «الدهشورية»، واستطاعت بالفعل جذب مجموعة من المهتمين بالفنون، صاروا مع الوقت ينتمون للمكان وناسه. ينصحونك بشراب الليمون الطازج فور وصولك من زحام القاهرة، كما لو كان طقسا ضروريا لخوض التجربة كاملة والاندماج فى الجو، ولا يفوتهم أن يضيفوا «سُكره قليل على غير العادة فى مصر»، وتستمر النصائح حول ما يجب أن تتناوله من مأكولات «خاصة كيكة البلح الذى تم جمعه من نخيل الحديقة»، فهم يشعرون أنهم من أهل البيت بسبب ترددهم عليه خلال السنوات الأخيرة، فى إطار ورش مختلفة.


أعلنت ماريان خورى عن إطلاق منصة دهشور للمهارات الإبداعية وسوق العمل، تحت رعاية وزارة التضامن الاجتماعى، وبدعم من مؤسسة دروسوس، وهى منظمة خيرية غير ربحية مقرها الرئيسى فى مدينة زيورخ بسويسرا، تعتمد فى تمويل مشروعاتها التنموية على رأس مال من وقف خاص. تحتفل دروسوس بمرور عقدين على بداية نشاطها، كما يأتى إطلاق مؤسسة شاهين لتدشين الاحتفال بمئوية المخرج الراحل الذى سيستمر طوال عام 2026 فى بلدان متفرقة من العالم. وتهدف المبادرة إلى الحفاظ على إرثه السينمائى وتمكين جيل جديد من المبدعين، فسيتم اختيار 200 شاب وشابة من جميع أنحاء الجمهورية لتدريبهم على مدار أربع سنوات وتأهيلهم لخوض تجربتهم الخاصة والانخراط فى السوق. والمشروع الذى سيديره المخرج السكندرى أحمد نبيل ويمنى الختام (عن مؤسسة دروسوس) يشمل جوانب متعددة منها الأفلام القصيرة والتسجيلية وكتابة السيناريو والبودكاست وصناعة المحتوى، فبيت الدهشورية يضم غرف مخصصة لإقامة المشاركين، إضافة إلى استوديو صوت وقاعة عرض.


• • •
تذكرت مقولات مختلفة ليوسف شاهين أثناء عرض المبادرة خلال حفل استقبال أقيم فى حديقة المنزل، وهو الذى كان يفخر دائما أن له مريدين وتلاميذ كثر يتجاوز عددهم الستمائة، وأنه طالما كرر على مسامع طلابه ضرورة تعلم الحرية وامتلاك رؤية للعالم كى تصنع أفلاما، فالجوانب التقنية موجودة فى الكتب، أما الإبداع فيأتى من خلال متابعة الناس بحب، إذ يحمل كل فرد منا قصة رائعة بداخله يجب على الفنان أن ينصت إليها جيدا كى يعبر عنها. وهو أيضا الذى ذكر فى أحد حواراته حول حرية الإبداع «نحن لا نصنع أفلاما كى نخبئها»، وأن أشد أنواع العنف قد تكمن فى حرق أو القضاء على كتب وإبداعات شخص بسبب التطرف أو عدم تقبل الرأى الآخر. وهو ما حاربه دوما بروحه المرحة وحب الحياة والموسيقى والرقص، العناصر نفسها التى ميزت أعماله واختلطت بالسياسة، لأن تنوع أشرطته السينمائية جعله شاهدا على العصر الذى عاش فيه بكل تعقيداته، منذ ولادته فى الإسكندرية يوم 25 يناير 1926 إلى وفاته فى 27 يوليو 2008 عن عمر يناهز 82 عاما.


على نغمات نانسى منير، وهى عازفة وملحنة شابة ولدت أيضا بالإسكندرية، مثلما أحمد نبيل وشاهين نفسه، رحت أتخيل هذا الأخير بيننا.. صرت أتجول بين أفلامه وكأنها شريط يتحرك أمامى مع الموسيقى، منذ بداياته عام 1950 مع فيلم «بابا أمين» الذى استلهم فكرته على الأغلب من رواية «تمت اللعبة» لجان بول سارتر. وخلال الستينيات صار أكثر ارتباطا بالواقع السياسى المصرى، انتقد دور المثقف والأوساط البرجوازية فى «فجر يوم جديد» (1965)، وتناول أحوال الفلاحين فى فيلم «الأرض» (1969). تأثر بالنكسة وانعكس موقفه على أفلامه مثل «العصفور» (1973) - خاصة المشهد الذى تنزل فيه النساء إلى الشارع رفضا للهزيمة - و«عودة الابن الضال» (1976) الذى ندد فيه بالظروف التى أدت إلى ضياع الحلم. ثم جاءت لحظة أخرى فاصلة فى حياته عند خضوعه لعملية قلب مفتوح قيل له إن فرص نجاحها قليلة، قرر بعدها أن يبدأ سلسلة من الأفلام أكثر ذاتية ازدادت معها شعبيته فى الخارج، وأثر هذا الملمح الجديد على السينما المصرية وعلى أجيال كاملة، وكانت سلسلة «إسكندرية ليه؟»، و«حدوتة مصرية»، و«إسكندرية كمان وكمان»، و«إسكندرية - نيويورك»، التى امتد إنتاجها من نهاية السبعينيات حتى بداية الألفية الثانية.


أول هذه الأفلام هو الأحب إلى قلبه لأنه يتعرض لسنواته الأولى فى كنف مدينة حكمها التسامح وتعدد الثقافات. تعلم فيها معنى الحرية وروح الاختلاف، قبل أن يسافر للتعلم والدراسة فى الولايات المتحدة الأمريكية فى أربعينيات القرن الماضى، فقد سحرته أمريكا الأفلام الاستعراضية وما قبل هيروشيما، وغضب كثيرا من سياسات الإمبرالية والهيمنة التى اعتمدتها فى فترات لاحقة، خاصة تحت حكم جورج بوش وما تلى الحادى عشر من سبتمبر من أحداث عكست «شيطنة العرب والمسلمين ليحلوا بذلك مكان المواطن الروسى ومثيله اليابانى اللذين شوهت صورتهما إبان الحرب العالمية الثانية».


• • •
تطورات هذا العالم دفعته إلى الصراخ أحيانا، من خلال مواقفه وأفلامه. وقد كان دائم التضامن مع القضية الفلسطينية، حتى لو لم ترتبط أفلامه بها بشكل مباشر، وحتى وإن وضعه فيلمه الأثير «إسكندرية ليه؟» فى مأزق حين اتهمه البعض بالتحيز للتطبيع والترويج لاتفاقيات السلام التى عقدها السادات، لأنه تناول فيه قصة حب بين يهودية ومسلم (أحمد زكى ونجلاء فتحى). ذكر المخرج باسل رمسيس، فى مقالٍ له نُشر على موقع «المنصة»، كيف شن يوسف شاهين حملة للدفاع عن فيلمه سياسيا وليس فنيا مع الاستعانة بقادة الثورة الفلسطينية فى بيروت لإنقاذ سمعته ومساره فى لحظة هامة كان العالم العربى يعيش فيها الحرب الأهلية اللبنانية ومجزرة تل الزعتر. قال حينها: «بعد عبد الناصر، ما القوة الموحدة التى تمنعنا من الاستمرار فى التدهور والتفتت؟ هناك قطيعة فى العالم العربى يلزمها قوة كبيرة تعيد التوحيد، ولا يبدو لى أن هناك قوة أخرى بهذا الحجم غير الثورة الفلسطينية». وافق كلامه عن مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية هوى القيادات الفلسطينية وقتها، ومرت الأزمة.
ينتهى عزف نانسى منير فى قاعة السينما والمسرح بالدهشورية، وأنا أرى وجه شاهين بابتسامته الساخرة وأتمنى أن أسمع تعليقاته اللاذعة حول ما يحدث حاليا، ولكن أكتفى بحفاوة وحماسة الموجودين فى هذا البيت الذى يقع على بعد خطوات من هرم سنفرو المنحنى وبِركة الملك.

التعليقات