عندما كتبتُ مقال الأسبوع الماضي عن رسائل البحر، وكانت منها رسالة عن ذكريات رحلة أوائل الثانوية العامة بالباخرة الجزائر علّقت الصديقة العزيزة إيمان رسلان، وهي من أبرز متخصصينا في شؤون التعليم، بأنه ربما كان من المفيد الحديث بشكل أكثر تفصيلا عن هذه الرحلة لنتبين اتجاهات التطور في هذا التقليد السنوي، ورددتُ عليها ضاحكة بأن أهم أوجه الاختلاف بين رحلتنا للخارج في عام ١٩٧٤ والرحلات المماثلة حاليا أن يوغوسلافيا التي زرناها وحللنا فيها ضيوفا على سفير مصر في بلجراد الدكتور مراد غالب لم يعد لها وجود كدولة اتحادية بعد أن تفككت إلى عدة جمهوريات مستقلة !
***
كنّا قد التقينا نحن أوائل الثانوية العامة قبل سفرنا معا بالبحر في عدة مناسبات، استقبلنا كبار الشخصيات واستضافتنا برامج تلڤزيونية وإذاعية، لكن المناسبة الأهم التي علّمت في ذاكرتنا كانت زيارتنا للجبهة. دفعة ١٩٧٤ في الثانوية العامة هي الدفعة الأولى التي تخرجت بعد أن كان قد تحقق نصر أكتوبر وهذا وجه آخر للاختلاف، وبالتالي فلقد نظمت لنا جريدة الجمهورية زيارة للضفة الشرقية للقناة، وكان إحساسنا لا يوصف ونحن نرى العَلَم المصري على أطلال خط بارليف الذي قيل عنه إنه خط منيع. كان مسرح العمليات مازال يحتفظ بأكثر شواهده وما مضى على ملحمة أكتوبر إلا بضعة شهور، وقفنا مذهولين نستمع لشرح تفصيلي لسير المعارك الحربية وقصص البطولة النادرة فنكاد نشم العبق ونعايش الملحمة ونقتفي الآثار. وعندما قُدّر لنا لاحقا أن نزور المصابين من ضباطنا وجنودنا الأبطال الذين كانوا يُعالَجون في إحدى مستشفيات بلجراد اكتملت الصورة في أذهاننا وتجلت كأروع ما يكون. وعلى المستوى الشخصي فإنني ما قرأت لاحقا عن حرب أكتوبر في مذكرات الساسة والعسكريين مصريين وغير مصريين إلا وكانت زيارة خط بارليف هي إطار المذكرات وبروازها، كانت زيارة لا تُنسى .
***
كنّا على موعد في كلية سان مارك بالإسكندرية لنبيت ليلتنا استعدادا لركوب الباخرة الجزائر لتبحر بِنَا في الصباح الباكر. كانت المناسبات التي جمعتنا قد تكفلت بإذابة الجليد بيننا ونحن من بيئات وخلفيات مختلفة، ثانوي حكومي وخاص، أدبي وعلمي، فني وتجاري وأزهري، حوالي عشرين شابا وشابة لا أكثر، الآن تضخم العدد ووصل إلى أربعين وأحيانا إلى ستين من الأوائل لأسباب عديدة أهمها اشتراك الكثير من الطلاب في المجموع نفسه. على أيامنا كانت مدراس الإرساليات تحتكر المراكز الأولى لاسيما في القسم الأدبي، لكن الوضع اختلف جدا في هذه الأيام كما اختلفت كل مكونات الخريطة التعليمية ولم تعد بالبساطة التي كانت بها على أيامنا. توقفت بِنَا الباخرة في مرفأ بيروت الحبيبة، وقعنا في حب هذه المدينة التي تسحر كل زوارها ، وما أدراك ما بيروت قبل عام من اندلاع حربها الأهلية العبثية التي لم يربح فيها أحد. نزلنا في أوتيل مشرق في شارع الحمراء، وعندما كنت أتسكع قبل بضع سنوات ووجدتني بالصدفة البحتة أمام هذا الفندق الصغير كدت أجن، كنت قد نسيت موقعه بالتأكيد، لكن ما إن رأيته حتى خفق قلبي خفقان الحب الأول. هذا المصعد العتيق كنّا نركبه إلى غرفنا، هذا المدخل الضيق كان يتسع بضحكاتنا ويتسع لها، واحدة من هذه الغرف كنت أتقاسمها مع صديقة عمري هالة نتجادل معا هي تريد فتح النافذة وأنا لا، أما أسواق سرسق والطويلة التي مشينا إليها ومشينا فيها فقد صارت أثرا بعد عين. أخذونا إلى بناية شديدة الحراسة وأسدلوا الستائر السميكة، قالوا لنا إننا سنلتقي مسؤولا مهما فَرُحنا نحدّس ونخمّن ونتراهن وخابت كل توقعاتنا. وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام أبو عمار.. ياسر عرفات. كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد انتقلت كما هو معلوم إلى لبنان وكانت في أوج ازدهارها وتوهجها، أبو عمّار متحدث بارع احتفظ بخيوط انتباهنا لم يفلت منها خيطا واحدا وهو يستعرض التاريخ البطولي للشعب الفلسطيني، هذا شعب لابد له أن ينتصر، قفزت إلى ذهني صورة سيناء الحبيبة.
***
من لبنان توجهنا إلى سوريا فتركيا فبلغاريا ثم رومانيا وأخيرا إيطاليا، وكما هو واضح كان لأوروبا الشرقية النصيب الأوفر في هذه الزيارة وربما ذلك يعود إلى بعض بقايا ميراث عبد الناصر الذي سرعان ما تبدد لاحقا وهذا اختلاف ثالث عن رحلات هذه الأيام. في كل محطة من هذه المحطات كنا نلتقي مع مسؤولين ونزور متاحف ومكتبات ومزارع ومساجد وكاتدرائيات، ندخل سينمات ونكتسب صداقات ونكوّن ذكريات، فكيف هي رحلة الأوائل في هذه الأيام؟. امتد حبل الود على غاربه مع أهل الشام، وجفلنا من خشونة الأتراك وفاجأونا بتفتيشنا بحثا عن شاي مهرب! أوائل الجمهورية يهرّبون؟ ويهرّبون ماذا .. شايا ؟ يا للهول!، تآلفنا بسرعة مع خفة ظل الطلاينة وتبادلنا معهم عشرات البيونچيورنو والبيونا سيرا. عبقري هذا هو صاحب فكرة رحلة الأوائل حيث الشباب الغض مثله مثل قطعة الإسفنج جيدة الامتصاص لكل الخبرات والتجارب، ولعلها مناسبة وإن تأخرت جدا لشكر جريدة الجمهورية صاحبة هذا التقليد الجميل، ولكل من ساهم في دعم هذا الجهد بعدما تضخمت تكاليفه.
***
من هذه المجموعة خرج رئيس جامعة الإسكندرية وأطباء نطاسيون، أساتذة جامعيون في تخصصات شتى ومهندسون ونساء لامعات في مجال السياحة وسوق العقارات. رحلت واحدة منّا عن عالمنا وهاجرت أخرى إلى كندا وتفرقت بِنَا السبل، وليت من تبقّى منّا يلتقون.