كثيرا ما سئلت عن رؤيتى لتطوير قطاع الأعمال العام، وأقر بأن رؤيتى لهذا القطاع الهام والصعب قد اختلفت كثيرا بعد تجربة رئاستى للشركة القابضة للصناعات المعدنية خلال الفترة من مارس 2018 إلى يوليو 2020 عن أى وقت سابق. ومع كامل التقدير لجهود السادة الوزراء الذين عملت معهم، والذين لم أحظ بالعمل تحت قيادتهم، هناك تفاوت طبيعى ومفهوم فى أولويات كل قيادة. وهناك مساحات للاتفاق والاختلاف بينهم ومعهم، لا تقلل أبدا من اجتهاد أيهم، كل فى مضماره. وهناك هضم لإنجازات أثمرت بعد رحيل أصحابها، لأن وقت الحصاد لا يعرف تقديرا للسابقين، وهى كأس دائرة يتجرع منها الجميع، حتى من حاول أن يكسر تلك العادة السيئة. وفى السطور التالية لا أزعم أننى يمكن أن أقدم رؤية جامعة لتحرير قطاع الأعمال من قيود وضعت عليه خلال عقود، أو أن أنصف بعباراتى إنجازات الأولين، لكننى أحاول أن أفتح طاقة نور تسمح بمرور أشعة التغيير سريعا، لترسم صورة أكثر بهاء لطاقات صناعية مهمة تملكها الدولة فى هذا القطاع.
•••
وفقا لمسودة وثيقة ملكية الدولة الصادرة أخيرا عن الحكومة المصرية، تعتزم مؤسسات الدولة التخارج التدريجى من معظم الأنشطة الزراعية، والصناعات التحويلية، وتجارة التجزئة، والتشييد والبناء... وذلك مع مراعاة الاعتبارات الاجتماعية وحقوق العاملين وبعض الصدمات الطارئة مثل أزمة كوفيدــ19 والحرب الروسية ــ الأوكرانية. وإذ تعرضت الوثيقة فى اتجاه محمود إلى دور الصندوق السيادى فى تحقيق أهداف تحسين إدارة وهيكلة ملكية أصول الدولة، وتنظيم مشاركتها للقطاع الخاص، فإنها لم تذكر بوضوح دور قطاع الأعمال العام فى تحقيق فلسفة الدولة الجديدة لملكية وإدارة المال العام، كما لم توضح كيف ستتمكن الدولة من التخارج السلس والإيجابى من ملكياتها المتعددة، فى ظل تردى أحوال سوق المال من الناحية التنظيمية والرقابية، وبالتبعية من ناحية السيولة والكفاءة والشمول؟ وكيف يدخل المستثمر وخاصة الأجنبى إلى سوق مصنفة ضمن أسوأ أسواق المال فى العالم أداء؟! علما بأن عينه دائما ما تكون على باب الخروج قبل أن يقدم على ضخ الاستثمارات فى أى بلد، وليس أفضل مدخلا ومخرجا من البورصة النشطة.
وإذ أتطلع إلى تحقيق المواءمة بين رغبة الدولة فى تعميق وتوطين الصناعة بإسهام متزايد لدور القطاع الخاص من ناحية، وبين الحفاظ على مكتسبات العاملين والمزايا الاجتماعية المتراكمة عبر الأجيال فى ذلك القطاع، حتى وإن جاء بعضها على حساب الكفاءة والتميز من ناحية أخرى، فإننى أجد من المناسب أن تنقسم التوصيات إلى ثلاثة أفرع هى: المتطلبات التشريعية، والمتطلبات التنظيمية والفنية، والمتطلبات المالية للإصلاح.
أما عن المتطلبات التشريعية للإصلاح: كنت ومازلت أرى أن تعدد القوانين المنظمة للشركات فى مصر على اختلاف أنواعها يعد إحدى العقبات أمام جذب الاستثمار، وسببا فى نفور الكثير من المستثمرين المصريين والأجانب. من ثم فإننى لا أجد تعديلات قانون ٢٠٣ الصادرة حديثا بجهد مشكور تحقق الغرض منها. بل أجد بعضها يحقق نكوصا عن فلسفة القانون الواردة رفق مذكرته التفسيرية لدى صدوره. وملخص التطوير المطلوب هو سطر واحد ينص على فترة انتقالية للشركات التابعة لقانون قطاع الأعمال العام (فى مختلف الوزارات) كى توفق أوضاعها مع قانون الشركات رقم ١٥٩، لتصبح جميع الشركات فى مصر منظمة بتشريع واحد، مع إلغاء جميع التشريعات التى تخالف ذلك. هنا فقط يمكن أن يثق المستثمر المخاطب بوثيقة ملكية الدولة فى الحياد التنافسى، الذى تردد فى غير موضع لوصف وضع الدولة فى سوق يعمل فيه القطاع الخاص مشاركة ومنافسة للمال العام.
أما عن المتطلبات التنظيمية والفنية للإصلاح: يجب أن تطلق يد الشركات القابضة والشركات التابعة لتصريف جميع الشئون المالية والإدارية وشئون إدارة الاستثمارات، وتدبير التمويل، على نحو يعزز من قدرتها التنافسية مع القطاع الخاص، ووفق آليات العمل فى السوق الحرة. مع إفساح الطريق للقطاع الخاص صاحب الخبرة والمعرفة لتولى مهام الإدارة فى أقرب وقت، وفقا لسياسة ملكية الدولة بعد تعديلها وصدورها فى الشكل النهائى.
•••
كذلك أرى أهمية المضى قدما فى استراتيجية التحول الرقمى، والتى شرفت بأنى كنت ممثل الشركات القابضة الثمانية فى تدشينها بتكليف من السيد وزير قطاع الأعمال، وإن كان التطبيق الرأسى والانتقائى لأهم قطاعات التحول الحافظة لموارد الدولة والمانعة للهدر، مثل قطاعات التكاليف والموارد البشرية فى أكثر الشركات تخلفا عن ركب الرقمنة، يمكن أن يحقق تقدما أسرع وأقل عرضة للتقلبات من التطبيق الأفقى الشامل الذى وجه به الرأى الاستشارى.
من المتطلبات التنظيمية المهمة أيضا «ما ورد نصا» فى فلسفة قانون 203 لسنة ١٩٩١ بضرورة «تقليص دور الأجهزة الحكومية التى تمارس شكلا من أشكال الإشراف والتدخل والرقابة على الوحدات الاقتصادية، ليقتصر الإشراف على جهة واحدة تمثل المالك وهى الجهاز المركزى للمحاسبات».
كذلك يتعين أن تتوافر للشركات إدارة لا تختلف فى نوعيتها وطبيعتها عن الإدارة القائمة فى المشروعات الخاصة، وأن تمنح هذه الإدارة القدر من الحرية الذى يتوافر لنظيرها فى المشروعات الخاصة، سعيا إلى أن تكون العلاقة بين المالك والإدارة شبيهة بالعلاقة التعاقدية والتى يوكل فيها المالك للإدارة مهمة إدارة الاستثمار، ويمنحها فى ذلك صلاحيات وحريات كاملة، دون أن يفقد حقه فى الرقابة والمحافظة على ماله (فصل الملكية عن الإدارة). مع الحرص على أن تتوافر الحوكمة القادرة على رصد وإدارة المخاطر، وأن تكون لدى مسئولى الرقابة الخبرة على التمييز بين الخطأ الملازم للممارسة الجادة، والخطأ الذى يخفى وراءه رغبة فى التكسب والإصرار على الانحراف.
• • •
أما عن أهم المتطلبات المالية للإصلاح، فيجب أن تصبح شركات قطاع الأعمال العام قادرة على تجديد طاقاتها وقدرتها على الإنتاج، إذ يستحيل تجديد هذه الطاقات فى ظل التزايد المستمر فى الأسعار العالمية للآلات والمعدات والمدخلات دون أن تتوافر المصادر الآمنة والمتنوعة لتمويل عمليات التحديث والهيكلة. ومن ذلك أدوات ومنتجات التمويل الحديثة والمبتكرة مثل الصكوك والسندات الخضراء واتفاقيات بيع المنتجات offــtaking agreements وغيرها من أدوات.
ومن الضرورى أن تتمكن شركات قطاع الأعمال العام من تصحيح هياكلها التمويلية من خلال الاعتماد على الموارد الذاتية، بعد أن أصبح الاعتماد على إضافة استثمارات جديدة من الدولة أمرا صعبا، نتيجة ندرة المواد المتاحة، وبعد أن بات من المتعذر الالتجاء إلى الجهاز المصرفى مع تراكم مديونيات تلك الشركات... وهناك تجارب ناجحة لاستغلال الأصول المعطلة، ومحفظة الأراضى، واتفاقيات مبادلة الديون بالأسهم لتوفير التمويل الآمن والمستدام، يمكن الاقتداء بها.
كما يجب أن يتم الإصلاح من أجل مساهمة الوحدات الاقتصادية فى زيادة الإنتاج، وزيادة القيمة المضافة، ودخول العاملين، فى إطار خطة الدولة للتنمية الاقتصادية، لزيادة قدرة المجتمع على توفير الرفاهية لأفراده والعاملين فى مشروعاته الاقتصادية المختلفة.
وختاما، فكثيرا ما تسببت الأيدى المرتعشة فى ضياع الكثير من فرص الشراكة مع القطاع الخاص، ومنها اتفاقيات اقتسام العائد بشروط جيدة تحفظ للمال العام حقوقه، وآن أن تتحرك الدولة نحو مزيد من المشاركة مع القطاع الخاص، وأن تعمل مع قيادة جديدة متخصصة لسوق المال على تطوير واستحداث منصة لتسهيل دخول القطاع الخاص، وتنمية استثمارات المال العام بشكل كفء وعائد متميز.
•••
ما تقدم هو مجرد ملاحظات أساسية لتطوير وتحسين أداء شركات قطاع الأعمال العام، علما بأن ملفات التعامل مع المديونيات، ووقف الهدر والفاقد فى أصول وإيرادات الدولة، وتسوية أوضاع العاملين ورفع إنتاجيتهم، وتحسين تأهيلهم فنيا... تحتل فى رأيى أولوية قصوى لإدارة هذا القطاع الحيوى. ويمكن الاهتداء بالتجربة الصينية فى هذا الأمر، والتى يتعين أن نفرد لها مقالا آخر، مع مزيد من التركيز على الصناعات كثيفة التكنولوجيا وكثيفة العمالة فى ذات الوقت، مثال صناعة المركبات، والمنسوجات، والصناعات المعدنية والكيماوية، التى لا تزاحم القطاع الخاص ولا تتسبب فى عزوفه عن الشراكة الفاعلة.
كاتب ومحلل اقتصادى