(مصر تغنى).. درّة من الجمال - سيد محمود - بوابة الشروق
الأربعاء 22 أكتوبر 2025 1:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

(مصر تغنى).. درّة من الجمال

نشر فى : الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 - 5:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 - 5:35 م

عند نهاية الثمانينيات، تابع مشاهدو التليفزيون المصرى برنامجًا يصعب نسيانه، كان اسمه (وقائع مصرية)، من إخراج كمال مسعود.

 


قدم البرنامج حلقات رائعة عن شادى عبدالسلام وعبدالعزيز فهمى، وعلى إسماعيل. ورغم توقفه لأسباب لا نعلمها، فإن أثره ما زال حاضرًا، يعبر الذاكرة أحيانًا، فأتذكر كيف ساهم فى تكوينى وتكوين رفاقى، وأتأمل الجهد الذى بذله صاحبه لينتج تلك الحلقات التى ظلت استثنائية فى كل شىء.
بفضله، خضنا الكثير من النقاشات التى قادتنا إلى تقصّى أثر هؤلاء والتعرّف على أعمالهم. وبالمثل، لعبت برامج الراحل شفيع شلبى دورًا فى تكويننا، بفضل حسّها الوثائقى النادر، وحماسه لأن تأخذ سمة تسجيلية، طاف معها محافظات مصر، ورصد العادات والتقاليد التى كانت توشك على الاندثار.
وإلى الآن ما زلت أشاهد بنفس الحماس على شاشة (ماسبيرو زمان) الحلقة التى أعدها عن المحمل ومواكب المتصوفة فى المولد النبوى، والتى أخرجتها الدكتورة عفاف طبالة.
كما لا أنسى الأثر الذى تركه برنامج إذاعى آخر كانت تقدمه الصديقة بثينة كامل تحت عنوان (مصر التى لا نعرفها) وبفضل هذا البرنامج تعرفت على بعض المعتقدات والطقوس الشعبية التى أجهلها، كما تعرفت على أسماء لعبت دورًا مهمًا فى الذاكرة المصرية ومؤخرًا نجحت بثينة كامل فى إتاحة الكثير من تلك الحلقات على عدة منصات صوتية، وتحولت بفضلها إلى أرشيف أنثروبولوجى عظيم الفائدة.
كِدت أفقد الأمل فى وجود برامج يملك أصحابها وعيًا مماثلًا بقيمة التراث المصرى وخباياه، إلى أن عثرت على برنامج اسمه (مصر تغنى)، يُبث على شاشة القناة الأولى، يُعدّه ويقدّمه الزميل أحمد عطا الله، الذى قرأت له قبل سنوات عملًا إبداعيًا مختلفًا فى تركيبته بعنوان (غرب مال).
ذكرنى برنامج (مصر تغنى) ببرنامج آخر كان يقدمه الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى عن الفن الشعبى مع المخرج الراحل شوقى جمعة.
بفضل ذلك البرنامج، تعلّمت فى طفولتى الكثير عن التراث الغنائى المصرى، وتجاوزت النظرة المتدنية التى ينظر بها البعض إلى الفن الشعبى، بعد أن تعرفت على رموزه مثل متقال وشوقى القناوى.
الميزة الرئيسية فى برنامج (مصر تغنى) الذى يظهر على شاشة القناة الأولى وشبكة قنوات الحياة أنه يتأخذ طابعًا تسجيليًا وتوثيقيًا فريدًا، ويراهن على جودة الصورة فى إثراء المحتوى، وإثارة اهتمام الأجيال الجديدة، كما أن مقدمه يمتلك وعيًا بقيمة ما يطرحه على المشاهد ولا يتعالى على الظاهرة التى يدرسها.
وفى نفس الوقت يحافظ على المسافة الضرورية التى تسمح له بطرح التساؤلات وإغناء وعى المشاهد بما يجهله، ثم ينخرط مع الفرق الموسيقية التى يقدمها فى طقس فريد من طقوس الغناء الجماعى بعد أن حصل على أكبر قدر من المعلومات من المصادر المتنوعة التى تظهر معه أمام الكاميرا.
تحتاج هذه النوعية من البرامج إلى شىء من السخاء الإنتاجى، والدعم المعنوى لطاقمها، لأن الصبر والصورة يلعبان فيها دور البطولة، إذ تطمح دائمًا إلى التوغل فى مناطق وثقافات مهمشة، وبالتالى تحتاج إلى تحضير وجهاد استثنائى فى الإعداد ومغالبة الظروف.
أحسب أن مصر تغنى أحد أكثر البرامج المصرية ثراء فى المحتوى وفى مساهمته الحيوية فى حفظ مأثورات الغناء الشعبى وتقديم مسح أنثربولوجى كامل يغطى أغلب مساحة مصر وأشكال الغناء الجماعى فيها سواء الأغنيات الدينية فى المديح أو الغناء الكنسى أو أغانى العمل وفنون الكف أو النميم والغناء البدوى. فقد قسّم فريق البرنامج -لأسباب إنتاجية محضة- جغرافيًا، مصر إلى مناطق، بحيث يتمكن من تصوير حلقات تغطى مختلف المناطق المتجاورة ليتمكن المشاهد من إدراك طابع التكامل فى أنماط الغناء، وتشابكها، واقترابها من فكرة النسيج الواحد التى لا يتوقف البرنامج عن تعزيزها كجوهر للهوية المصرية.
لا أُبالغ إن قلت إن دور أحمد عطا الله -الذى لا أعرفه معرفة مباشرة- لا يقل أهمية عن الدور الذى لعبه الراحل زكريا الحجاوى فى الستينيات، حين تولّى جمع تراثنا الغنائى الشعبى وتقديم أصواته للناس. لكن الميزة الرئيسية التى توفرت لعطا الله، أنه جاء فى عصر الصورة، فحوّل هذا التراث إلى صورة ناطقة بالجمال وجوهرة حقيقية من جواهرنا، التى تحتاج إلى رعاية وصيانة وإيمان بالقيمة.