يبدو أنّ العالم كله، بات يعرف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب كما يعرف إعلانًا تجاريًا يُعاد عشر مرات فى اليوم، رجل يحب أن يُسمع صوته، لكنه يحب أكثر أن يسمع مديحه. وعندما يطرب، لا يهم إن جاء اللحن من حليفٍ أو خصم. الكرملين التقط النغمة؛ فبعد أن لوّح ترامب الأسبوع الماضى بتزويد أوكرانيا بصواريخ «توماهوك» ـ وهى خطوة كانت كفيلة بإزعاج موسكو وإعادة بعض التوازن للجبهة- ردّ الروس، لا بصاروخ ولا بعقيدة عسكرية، بل بنفق غرام سياسى سموه «نفق بوتين ــ ترامب».
النفق، بحسب مبعوث الاستثمار الروسى، كيريل دميترييف، سيربط ألاسكا بسيبيريا، وسيمثل «رمز الوحدة» بين البلدين. وسيسهم فى تمويله «شركاء دوليون» بتكلفة ثمانية مليارات دولار. بل واقترح أن تتولى بناءه شركة تابعة لإيلون ماسك، وكأنّ الروس قرروا أن يضيفوا قليلًا من التكنولوجيا الأمريكية على مائدتهم الدبلوماسية.
• • •
هل يصدق أحد فعلاً أنّ روسيا والولايات المتحدة ستبنيان نفقًا بطول آلاف الكيلومترات فى جليد بيرينج فى القطب الشمالى؟ ربما لا. لكن الهدف ليس الجغرافيا، بل السيكولوجيا: فالرجل (ترامب) الذى يُسحره المديح، من السهل أن تُفتح له أبواب السياسة بعبارة لطيفة، لا بضربة حادة.
ترامب بدوره لم يُخفِ ارتياحه؛ فالتسريبات القادمة من واشنطن تقول إنّ لقاءه بالرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلنسكى قبل عدة أيام كان عاصفًا، وإنه خرج منه أكثر شكًّا فى فرص أوكرانيا بالنصر، بل إنه بدا مترددًا فى الحديث عن «التوماهوك» التى كان يتباهى بها قبل أيام فقط، وكأنّ نفق سيبيريا قد حُفر فى قراراته قبل أن يُحفر فى الأرض.
الكرملين يعرف أنّ النفق لن يُبنى غدًا، لكنه يعرف أيضًا أنّ الفكرة وحدها تكفى لتغيير نبرة الحديث فى البيت الأبيض. الروس لا يحتاجون اليوم إلى انتصارات ميدانية بقدر حاجتهم إلى مساحات رمزية يلتقطون فيها أنفاسهم، وما أذكى أن تبيع حلمًا باهرًا لرئيسٍ يهوى الصور العملاقة والمشاريع التى تحمل اسمه.
• • •
التحليل البسيط يقول إنّ موسكو تحاول بذكاء أن تُحوِّل المواجهة مع واشنطن إلى لعبة «المديح المشترك»، فبدل العقوبات، يصير هناك مقترح «تعاون».. وبدل الحديث عن الحرب، هناك نفق «سلام» بين ألاسكا وسيبيريا. وبدل تبادل الاتهامات، هناك صورة خيالية تجمع ترامب وبوتين على لوحة معدنية عند مدخل النفق.
فى المقابل، تتابع أوروبا بدهشة لقاءً وشيكًا بين الزعيمين فى بودابست، حيث سيفتح فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجرى- الذى يتهمه الأوروبيون بالاقتراب من روسيا، والارتماء فى أحضان الإدارة الأمريكية- الأبواب لبوتين ليجلس أمام ترامب فى قلب الاتحاد الأوروبى.
من بعيد، يبدو العالم كله وكأنه مسرح كبير تتبدّل عليه الأدوار.. فروسيا تبحث عن منفذ دبلوماسى، أمريكا تبحث عن مجدٍ شخصى، أوروبا تتوق لموقفٍ موحد، وأوكرانيا عن معنى للنصر وسط الفوضى. أمّا نحن العرب، فنراقب بدهشة لا تخلو من سخرية: فكم مرة سمعنا عن «مشروع الوحدة» فى منطقتنا، ثم انتهى إلى مجرد صورة تذكارية؟
• • •
قد لا يُبنى النفق يومًا، لكنّ غزله السياسى حقق غايته: أن يتحدث العالم عن «بوتين وترامب» فى جملةٍ واحدة، لا عن «بوتين وكييف».. وهكذا، نجح الروس فى تحويل أزمة الحرب إلى حكاية مجاملة، يعرفون أنها لن تمر بلا أثرٍ فى عقل الرئيس الأمريكى.
فى النهاية، لا أحد يعرف إن كان النفق سيشقّ الجليد حقًا، لكن المؤكد أنّ نفقًا آخر حُفر بالفعل -بين غرور ترامب ودهاء بوتين- وها هو العالم كله يراقب مدخله... ولا يرى ضوءًا فى نهايته.