فى عام 2014 اختار متحف تورين الدكتور Christian Greco مديرا له خلفا للسيدة Evelina Christillin التى تولت الإدارة من سنة 2012 إلى عام 2014. ورغم أن السيدة كريستيلن شخصية نشطة وفعالة إلا أن تخصصها كان بعيدا عن علم المصريات والمتاحف، ولكن نشاطها يدور حول الرياضة، فهى عضو فى مجلس الاتحاد الدولى لكرة القدم FIFA واختيرت عضوة فى اللجنة التى نظمت استضافة مدينة تورينو الإيطالية للأولمبياد الشتوية فى عام 2006.
أما جريكو الذى اختارته لجنة متخصصة لاختيار أحسن عنصر، فمؤهلاته الأكاديمية والعلمية زكته لمنصبه لرئاسة أكبر متحف للآثار المصرية خارج مصر، الذى يضم أكثر من ثلاثين ألف قطعة تمثل الحضارة المصرية منذ عصر ما قبل الأسرات إلى الحقبة اليونانية الرومانية.
تخرج جريكو المولود فى عام 1975 من جامعة بافيا وحصل على ليسانس فى الكلاسيكيات وآثار الشرق الأدنى، واستكمل دراسته حتى حصل على الدكتوراه فى علم المصريات من جامعة بيزا سنة 2008.
أما من خبراته العلمية والمهنية فقد شغل منصب أمين المجموعة المصرية فى متحف Rijks museum الهولندى فى سنة 2009، وشارك فى عدد من البعثات التنقيبية عن الآثار فى سقارة سنة 2004 مع جامعة لايدن، وفى ذراع أبو النجا مع جامعة بينزا، ثم عاد إلى سقارة مرة أخرى فى عام 2009 مع البعثة الإيطالية الهولندية المشتركة، وشارك فى بعثة معهد شيكاغو للدراسات الشرقية فى الأقصر. إذن، لديه خبرة ودراية تؤهله للنجاح، وكان أداؤه مميزا منذ أن تولى منصبه فقام بتوسعة مساحة المتحف من 6500 متر مربع إلى عشرة آلاف متر مربع، مع تحديث أسلوب العرض والإضاءة والأمن ليكون متحف تورين نموذجا للعرض المتحفى الحديث.
إضافة إلى جهده التنظيمى، أقام مجموعة من المعارض المؤقتة فى المتحف للتعريف بتاريخ علم المصريات أهمها؛ معرض بومبى والنيل للوصل بين الحضارة الرومانية والحضارة المصرية، ومعرض تاريخ البعثة الأثرية الإيطالية إلى مصر خلال الفترة من 1903 إلى 1910، ومعرض عايدة فتاة العالمين عن الخلفية المصرية والإيطالية لأوبرا عايدة التى لحنها الموسيقار الإيطالى فيردى، ومعرض الآثار الخفية عن الجوانب المخفية فى الآثار التى أظهرتها التقنيات الحديثة من الأشعة المقطعية وكربون 14 Carbon 14.
• • •
حققت إدارة جريكو نجاحا كبيرا وبلغ عدد زوار المتحف فى عام 2022 أكثر من 900 ألف زائر وزائرة بزيادة 10% على الفترة السابقة لجائحة كورونا. وفى لفتة كريمة منه لمصر التى أثرت حضارتها ساحات وأروقة متحف تورنيو وغيره من المتاحف، قام بوضع لافتات توضيحية للتحف والمعروضات فى المتحف باللغة العربية وأطلق شعاره Fortunato chi parla arabo أو محظوظون من يتحدثون العربية، كما قرر منح خصم قدره 50% على تذاكر دخول المتحف للمصريين.
بدأت مشاكل الدكتور جريكو فى عام 2022 عندما أسفرت الانتخابات النيابية عن فوز جبهة اليمين المتطرف المتمثلة فى حزبى تحالف الشمال Lega Nord وإخوان إيطاليا Italia ’Fratteli d وتشكيل الحكومة برئاسة Giorgia Meloni لتكون أول حكومة لليمين المتطرف تحكم إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية. ومنذ وصولها، ناصبت الحكومة اليمينية الدكتور جريكو العداء وشنت حملة تطالب بإقالته من رئاسة متحف تورين بتهمة العنصرية ضد الشعب الإيطالى! وإشاعة الكراهية مع الدعوة إلى سيطرة أكبر للحكومة على الثقافة ومؤسساتها فى إطار حملة من الإسلاموفوبيا والعداء للعرب.
ولعلنا نتساءل عن أهمية متحف تورين وتاريخه. المتحف يضم أكبر مجموعة للآثار المصرية بعد المتحف المتحف المصرى فى القاهرة. استحوذت إيطاليا على معظم هذه المجموعة التى جمعها القنصل الفرنسى فى مصر فى أوائل القرن الـ19 Bernardino Drovetti وهو إيطالى انضم إلى جيش نابليون وعاد قنصلا لفرنسا بعد سقوط نابليون وكان مع القنصل الإنجليزى Henri Salt من أنشط ناهبى الآثار المصرية، وعرض دروفيتى مجموعته الكبيرة على فرنسا إلا أنها رفضت دفع المبلغ الذى طلبه فاشتراها الملك Carlo Felice ملك بيدمونت وسردينيا قبل توحيد إيطاليا، وما زال متحف اللوفر يعض بنان الندم على هذه الفرصة التى أضاعها إلى يومنا هذا، ثم اختيار مقرا للمجموعة فى قصر Palazo dell’ academia del scienze قصر أكاديمية العلوم وهو مبنى تاريخى بناه فى عام 1687 الراهب Guarino Guarini وهو فيلسوف وعالم رياضيات وفلكى وفيزيقى شهير فى القرن السابع عشر، فضلا عن كونه معماريا موهوبا صمم العديد من الكاتدرائيات والمبانى فى إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، وتم افتتاحه فى عام 1824 كمتحف تورنيو المصرى، ولا تقتصر أهمية وندرة بعض ما يعرضه وهو يحوى عددا كبيرا من البرديات منها بردية تورينو التى كانت تعتبر أقدم خارطة فى التاريخ، فضلا عن بردية قائمة الملوك وكذلك تمثال للملك رمسيس الثانى يعتبر من أجمل التماثيل الفرعونية القديمة، وموكب الملوك الذى يضم مجموعة لتماثيل ملوك الدولة الحديثة.
• • •
الموقف الشاذ لأحزاب اليمين المتطرف الإيطالى يمثل التوجهات العنصرية لليمين الأوروبى الذى يركب موجة الإسلاموفوبيا ومعاداة الرب ويستعظم أن تأتى لمحة من مدير متحف إيطالى لمجاملة مصر والاعتراف بفضل حضارتها التى أثرت متحفه ومتاحف العالم بكنوزها وآثارها المنهوبة، وأن يأتى الهجوم على الدكتور جريكو من الأحزاب الحاكمة فى الحكومة الإيطالية يعطى الأمر بعدا أكبر وأخطر.
يحتاج الأمر إلى رد فعل حاسم من مصر فى مواجهة الهجوم على أصدقائها والعارفين بفضلها حتى يشعروا بأن وراءهم ظهرا يحميهم كما لداعمى الدوائر الصهيونية الذين لا يقدر أحد على توجيه اللوم أو النقد لهم.
لعل الأثريين المصريين الكبار ذوى الشهرة العالمية والثقل الدولى، يقومون بحملة لدعم د. جريكو والإشادة بإدارته لمتحف تورينى وإنجازاته المشرقة وأرجو أن تكرمه مصر بلفتة كريمة بدعوته فى افتتاح المتحف المصرى الجديد، والنظر فى منحه وساما مصريا ليعرف أصدقاء مصر فى العالم بأن مصر تقدرهم وتحتضنهم.